قصة العبـــد بيرام بقلم حنفي ولد دهاه

لالا

اعتقلوا بيرام، ثم تداعوا يوزعون  أعفصة القمح على سكان آدوبه..

سجنوا القمر “الأسود”، حتى لا يسود سواد سوى الظلام..

قتلوا أحلام لوثر كينغ المهاجرة عن سطح الجلد  الى شغاف القلب.. وجدعوا أنف وأنَفَة روزا باركس.

ثم أقاموا أسواقهم رابعةَ النهار.

***بيرام، هو صديقي الذي تعودت علي صراحته ومكاشفته.. كان معي رقراقا كالماء النمير، يبدي لي سرائره مع الصفاء، ولكنه لايخفيها مع الكدر.. كنا في  رؤيتنا للحيف الاجتماعي، في مجتمع البيظان، ابناء علات.. و كنت أراه يتوقد كما تتوقد الشمعة التي تموت في شمعدانها وهي تضيئ.. لا كما تذوب قطعة الثلج في الماء الفاتر.

بيرام هو، بالنسبة لي، إرهاصات ميلاد الحرية من رحم الاستبداد..وانبلاج  فجر العدالة من ظُلمة الظلم..هو الحقيقة الكاشفة التي لا تزعج غير صراصير البؤر العفنة..  هو نبتة الخزامى التي لا تثير غير حَنَق الأعشاب البرية.. و الأمل الواعد في ان  يتحرر الراسفون في قيود الرق والتبعية.

إنه يتجرع الآن، كما تجرعت قبله، غُلل الظلم من ذات الكأس التي يديرها جنرال ارعن.. فقط  لأنه أراد لنفسه أن يكون حراً، في بلد لحرية “العبد” فيه معنىً آخر!.. ولكن الأغبياء لم يدركوا أنهم بسجنهم لبيرام إنما يحشرون  أنفسهم في قارورة بيبسي، لا تتسع لغير عقولهم المتحجرة..  وأنهم بمحاكمته يحاكمون ملاّك العبيد والمتسترين على غيّهم، المتسترين بالأيام.

****لقد كان اعتقال المناضل بيرام ولد اعبيدي، و رفاقه النشطاء الحقوقيين، فرصةً لأن يعود الحديث عن العبودية ومخلفاتها جذعاً. وهو الموضوع الذي لا تزال النعامة الهوجاء، تدس رأسها في الرمل، حتى لاترى خطره القادم إليها، كزوابع الصحراء الغاضبة:

بعضهم ينكر وجود عبودية في البلاد، ويتحدث عن رواسب ومخلفات!

وبعضهم يتحدث عن عرب سمر،  و أواصر رحم تربطنا بـ”اخوتنا ” العبيد، وعن عين نجلاء لا يبصر بياضها بغير سوادها، وعن وطن كأسنان المشط، لا  يُراع سربه لولا جَلَبة المتاجرين بحقوق الإنسان ولَجَبتهم.

ولكن دعهم يضربون في حديد بارد، فممارسة العبودية في مجتمعنا المتجذر أجلى من الشمس رأدَ الضحى،  إلا أن بإمكانك أن تُري الأعمى ما لا يمكنك أن تُريَ المتعامي.

لم يعد يجف حبر لايصف المناضل بيرام ولد اعبيدي بالتطرف في تناوله  لموضوع العبودية في موريتانيا، إلا أنه لا أحد يسأل نفسه: ما الذي يقود بيرام الى التطرف (إن راق لهم اعتبار الامر تطرفاًِِ)؟

لا أحد دفعه إنصافه لأن يتخيل طفولة بيرام المحرومة،  كغيره من ابناء العبيد.. ولا أحد خطر بباله أن يتصور كيف كان الطفل النابه ينظر الي يد والده المسكين، حين تَمْجَل في خدمة سيدٍ مقدودٍ قلبه من حجر.

حين نفكر في “تطرف” العبيد في  اقتضائهم منا ديون حريتهم، فلماذا لانفكر في تطرفنا في استرقاقهم؟..لماذا لانفكر في قرون كنا ندوس فيها بأظلافنا ومناسمنا رقاب   الأرقاء البائسين، و نسلب منهم آدميتهم؟:

كنا ولا نزال، نبعث صغارهم رعاة لصغار البَهْم ونِقاد الغنم، حين يغدو ابناؤنا، بكورَ الطير، إلى كتاتيبهم.. ويرعى رجالهم سوائم الإبل حيث  لا يتعهد رجال البيظان، من زوايا وحسان، غير مكاتبهم أو كتائبهم.. وحيثما قر نساء البيظان في بيوتهن،  يرتمين اللحوم والشحوم، ويُدرنَ عليهن قَعْوا  يتدفق سائغ رِسْلِه، كان نسائهم يدلكن لهن عصائد العيش الصالح، أو يعدِدن جِفان الثريد..

تذكروا حين كان (ولا يزال) رجال البيظان يتخذون من بناتهن سراريَ و محظيات، في اعتداء جنسي علي جسد “الأمة” وروحها، لم يكن يلقى في المجتمع الموريتاني زاجرا عنه، أو ناكرا له.

ثم  اجيبوني بعدها: حين يعاجلك شخص منا بصفعة على خدك، بِداراً، هل يكون عليه ان يمليَ عليك ردة فعلك؟..هل سيكون من حقه: ان يحدد لك كيف تعيد عليه صفعته؟.. وهل سيكون له ان يوصيك بتجنب خده الأيسر حتى لا يصيبه ألم في النواجذ؟.

إن تطرف البيظان في الفعل، لن يؤدي لغير تطرف في ردة الفعل!

****

في الواقع،  فإن لممارسة العبودية في موريتانيا، تجليات عديدة، منها: ما يمكن تسميته بـ “العبودية الخدمية”، وهي الاستغلال اليومي الذي يتم به تسخير العبيد في  خدمة البيوت، سواء في المدن  أو في الارياف ، إلا أنها اخف وطأة  في الحاضرة، حيث أن أغلب حالات “العبودية الخدمية” في انواكشوط مثلا،  يكون ممارسوها من القاطنين خارج العاصمة، المتواجدين فيها لضرورة عمل او دراسة.

اما السائد في المدن الكبرى من علاقة الاستغلال بين السيد والعبد، فهو ما يمكن اعتباره “تبعية اقتصادية”يخضع بموجبها “العبد” الفقير، (الذي  لم تكن  تسمح له قوانين الفقه المحافظ بالتملك، رغم انه المنتج الرئيسي في المجتمع الموريتاني التقليدي) لتسخيره من طرف “السيد” (الكسول، المولع بالراحة، الراكن إليها، الغني فقط باستغلال عضلات عبيده)  مقابل  لقمة عيش يسدّ بها الرقيق خلته، بما يتقدّر بقدر الحاجة، حتى لا تنفصم  عٌرى التبعية.. شأنهم في ذلك شأن الاستعمار الغربي الذي ترجل من دبابته، ليلبس لاغراضه في القهر الحضاري  واستغلال ثراوات العالم الثالث وطاقاته، لبوس الثقافة و العولمة.

ومن تأثير هذه التبعية لجيب “السيد”، رضوخ “الأرقاء”  للمالكين الزمنيين للأراضي الزراعية، الذين يعتصرون منهم غَلّتهم و عرق جبينهم، مقابل حفنة زرع..

قصة “العبودية العقارية”  هي واقع الارقاء الذين تمتد تجمعاتهم من جنوب غرب البلاد الى جنوبها وشرقها.. الذين تم تثبيتهم فيها من طرف اسيادهم، خلال عهود سبقت الاستعمار الفرنسي، ليكدحوا في استصلاح الأرض واستدرار غَلّتها، على أن يرد عليهم، أوانَ حصادها، أسيادهم، القادمون من أراضيهم البيضاء، حيث لا بعوض ولا رطوبة،  فيعتصرون محاصيلهم..

وقد اعتمد المستعمر عند قدومه نفوذ العشائر والحضرات الصوفية في تثبيت  سيطرته علي الأرض، فجعل منهم وسطاء في إدارته للبلاد، ليمنحهم مقابل ذلك وثائق بملكية الأراضي، تحْرِم منها مستغليها الارقاء، رغم أنها مساكنهم ومدافن أسلافهم.

وفي ظل الدولة الحديثة، التي يتحكم البيظان في إدارتها، ظل ابناء الاسياد من قضاة وضباط شرطة قضائية، يكرّسون هذا الواقع المتجني، حتى لا  يدور مَنْجنُون العدالة على الأرقاء، مما جعل قانون الإصلاح العقاري الصادر في1982 فارغا من مضمونه.

إن هذه الأراضي هي سلاح “السيد” الأبيض، الذي يشهره في وجوه الأرقاء المستضعفين، حيث يستغل عضلاتهم المفتولة في  استدرارها،  كما يوجههم  في المواسم الانتخابية شطر َ توجهات الاسياد السياسية.

ولا يتوقف الاستغلال العقاري عند هذا الحد، بل  يكون وسيلة لفرض استرقاق  “خدمي” في البيوت، والي اتخاذ بناتهم (كما هي سنة المشائخ الروحيين) جواري، يأتيهن السيد، كما يأتي المرء طعامه.

و ستنهال على هامة  من عصا إرادة السيد، عصى الوثائق القانونية البيضاء!

****

هناك تأثير كبير للنصوص الدينية، في السيطرة الروحية على جسد العبد، من خلال ترويض عواطفه، مثلما تتم السيطرة علي المرأة التي يتم تزويجها دون رضاها، بأحكام “النشوز”.. فالعبد هو “مال وخَولٌ” لسيده، و الرقيق “الآبق” الذي خلع  من عنقة ربقة السيد،  يبيت في  غضب الله. رغم ان منطق الإسلام وعدله لن تتأتي معه ممارسة استرقاق.

هذه السيطرة الروحية على عواطف “العبد” هي التي تفرض عليه  أن يلجأ احيانا لشراء حريته من سيده الوهمي..وهي ذاتها التي تدفع  داعية حقوق الارقاء مسعود ولد بلخير لأن يتعهد بالزيارة “سيدته”، العجوز البَرزة، التي تسكن في مدينة سيداتي، وأن  يمنحها تذكرة حج.

.. كان العالم التكروري احمد بابا التمبكتي (٩٦٣ -١٠٣٦هـ –  ١٥٥٦- ١٦٢٦م) أول من اثار إشكالية شرعية الاستعباد في وثيقته عن “حكم مجلوب السودان” التي تعرض فيها للأصول الزنجية للرقيق “الجائز”، وهي الفتوى التي تعدت علي حرية غير المسلمين،  من ابناء القبائل الزنجية الوثنية، حيث جعلت من “الكفر” معياراً للعبودية الشرعية، إلا أن الوثنيين دانوا المسلمين كما دانوهم، فتم ايضا استعباد المسلمين كما حدث مع مسلمي شمال افريقيا على يد تيبو تيب..حتى أن من المسلمين  من استغل فرصة اختلاط الحابل بالنابل ليتاجر بحرية مسلمين مثله. فابن ملك فوتا جالو عبد الرحمن ابن ابراهيم، قد تم بيعه  في العام  ١٧٨٨م لنخاس انجليزي يدعى “جون نيفن”، كان يجول بسفينته “افريقيا” في القارة السوداء لشراء ابنائها..ولم يكن ثمن الأمير الإفريقي باهظا: علبتي بارود، وقارورتي خمر معتقة، وقليلا من التبغ.

وجد الأمير  الافريقي نفسه رقيقا، في  مزرعة على ضفاف المسيسيبي، لاربعين عاماً، إلى ان التقى بالطبيب الإيرلندي  جون كوكس، الذي سبق له ان عالجه من مرض ألمّ به في تمبكتو، لدى بلاط ابيه، فحاول أن يقنع سيده باخلاء سبيل الامير الافريقي، إلا ان سيده رفض كل ثمن مقابل  تحريره.

وحين ذاع خبر الأمير الرقيق، وتناولته الصحافة الامريكية، اتصل الرئيس الامريكي  جون كوينسي آدم بالعاهل المغربي مولاي عبد الرحمن باعتباره اميرا للمؤمنين،  وباعتبار الامير الافريقي، المستعبد،  مسلماً. إلا أن الامير “العبد” رفض ان يتم تسليمه للمغرب. وبعد أن تم تحريره، وعائلته، من نَيْر عبودية سيده توماس فوستر، غادر الامير الافريقي وزوجته الامريكية ايزابيلا، الى مسقط رأسه في بلاد التكرور، غير أن المنية وافته في ليبيريا، يوليو ١٨٢٨م.

وهناك ايضا قصة الأمير الغامبي أيوب ابن سليمان جالو، الذي كان يمارس هو ايضا تجارة الرقيق. وخلال نشاطه التجاري هذا، عبر نهر غامبيا، رغم تحذيرات والده له، ليبيع عبيده في اسواق “تانكرول”، وأثناء عودته، وقع تحت رحمة قبيلة “المادينغو” الذي سلبته من أملاكه، لتبيعه للنخاس الانجليزي “بايك” الذي كان ايوب احد زبائنه، فتم شحنه في  سفينة “ازبيلا” إلى مزارع ميريلاند، مملوكا للسيد الكسندر تولسي الذي تساهل معه بعد معرفته بوضعه الاجتماعي،  ليسمح له بالكتابة لأبيه عن طريق لندن، من خلال “الشركة الافريقية للتجارة”، التي أحالت رسالته المحررة باللغة العربية الي قسم اللغات في جامعة اكسفورد، لتتم ترجمتها، وحين اطلعت الشركة الافريقية علي هوية الامير الافريقي المسترق في  أمريكا الشمالية، وجدتها فرصة ينبغي استغلالها  لبسط نفوذها  الاقتصادي في افريقيا، حيث كانت تنافسها الشركات الفرنسية في  تجارة الصمغ والذهب في منطقة النهر السنغالي.

وقد أفلحت الشركة البريطانية في تحرير الامير أيوب، الذي قدمته للمجتمع البريطاني في اعلى مستوياته، حيث استقبله الملك جورج الثاني و زوجته الملكة كارولين، التي أهدته ساعة ذهبية.

عاد ايوب الى غامبيا، حيث  لم يتراخَ في خدمة حلفائة البريطانين، رغم اعتقاله من طرف الفرنسيين وتهديده بالاسترقاق ثانيةً، حتى وافته منيته في عام ١٧٧٣مـ.

… و هكذا كانت فتوى احمد بابا التمبكتي، عن مجلوب السودان، هي المفتاحَ الذي دار في قفل العبودية ففتح بابها علي مصراعييه!

.****

لكي يتأتى تحرير العبد من نير استرقاق “السيد”، فإنه يجب ايضا تحرير “السيد”  من  عقدته السيادية.

هناك عقدة مزدوجة: فـ”العبد” لا يزال يشعر بالدونية  والضّعة، فهو يعتقد  أن الدين و الطبيعة يجعلانه قاصراً أمام  “سيده” الأبيض.

الدين الاسلامي  مثلاً لا يمنحه حق  إمامة الصلاة، كما يعتبر الحرية  شرطا في العدالة يلزم من عدمه العدم.. وكذلك تقرر احكام النكاح الشرعي ان الكفاءة بالحال، فليس “العبد” كفؤا للزواج من قرشية..

وفي عقله الباطن ايضا يحس العبد أن الطبيعة وتجارب  التاريخ تقتضي دائما تفوق الرجل الابيض.

وهذه الأوهام في وجهها الثاني تزرع في “السيد” عقدة الكبر والغرور، مما يجعله ينظر بفوقية الى الارقاء، وكأن الذي خلق الإنسان من حمإ مسنون، إنما سوّى الاسياد من عجينة مسك.

وأعتقد أن أي علاج لهذه العقدة المزدوجة يقتضي  معالجة شعور “العبد”  بالنقص. وعقدة السيد بـالكمال الذاتي. و هو ما لا يتأتى تحقيقه دون تربية المجتمع علي قيم  تكريم الإنسان، التي تتعارض مع النبل الطيني، وتمجيد الدماء، واكتساب الشرف بالإنتساب.

ينبغي أن يحس العبد في قرارة نفسه أن تعرضه للظلم والاضطهاد، لا يجعل منه إنسانا قاصرا، فهو أهل للسمو حين يكتسب القيم السامية،  ولاتقتضي الفطرة السليمة أن يبطئ به نسبه حين يسرع به عمله.

كما ينبغي أن لا يشعر السيد أن استغلاله لإنسان مثله، وسلبه لحريته، وقهره له بجبروت ظلمه وتعسفه، سيجعل منه كائنا متفوقا تفوقا مطلقا بفطرته، ساميا في جوهره،  عالي الكعب بنِجاره وأرومته.

حين يشفى السيد من عقدة سموه سينظر الى  جوهر إنسانية العبد وليس إلى ما آل اليه بسبب القسوة و الحرمان.. كما لن يعتبر العبد نفسه قزما ليس بمستطاعه – وإن تسامى- أن يطال  شِسع  نعال سيده.

وبهذا ستتزاحم اكتافهم عند باب العدالة والمساواة.

****

قال لي بيرام في آخر حديث بيننا “إنه يعتقد أن العلاج الناجع لداء العبودية في بلادنا، هو في أن يتاح لمسعود ولد بلخير فرصة قيادة البلاد”، ولأنني لا أرى رأيه فقد حاججته في  الأمر كثيراً.

أنا اعتقد أن سياسة ولد الطائع في تعيين أطر لحراطين في مناصب سامية في هرم السلطة، هي مجرد وسيلة لذر الرماد في العيون،  فهو يضر مكافحة الرق أكثر مما يفيدها: المناضلون التاريخيون غسلوا أدمغتهم من هموم العبودية، بمجرد أن تأرجحت بهم كراسيهم  الهزازة.  كما أن  تعيين بعض ابناء العبيد  وزيرا أول، أو انتخابه رئيسا للجمعية الوطنية، قد يعضد في شكله دعاوى من ينكرون وجود عبودية في موريتانيا.

لقد شغل ولد بلخير  في عهد الرئيس معاوية ولد الطائع حقيبة وزارة التنمية الريفية  ما بين  ١٩٨٤م و ١٩٨٨م، ورغم  أنها الوزارة الأكثر حضورا في حياة الفلاحين والمزارعين، الذين ينتمي أغلبهم  لشريحته، فإنه لم يعرف عنه حينئذ اي اهتمام خاص بالأرقاء، كما أن كل اللحون التي يُحسِنُ غنائها الآن، قد جفت حينها علي شفاهه.

كنت قد طرحت ذات السؤال على مسعود ولد بلخير في مقابلة اجريتها معه لاسبوعية “الصحافة”، بعد حظر حزبه “العمل من أجل التغيير” في ٢٠٠١. ولا أزال اتذكر جوابه الذي لم يقنعني.

لقد خالفت في ذلك صديقي بيرام، فأنا اعتقد توخياً لسلاسة الامور وانسيابها، أنه يجب أن تكون هنالك مرحلة تأسيس تمهّد المرحلة  التي  يتأتي فيها ان يصل للسلطة احد ابناء العبيد، المكتوين بنار الظلم، الذي قد تنتج عنه تصفية حسابات وصغائن تاريخية.

وبمعني آخر: فإنه حين يتولى السلطة، من ابناء الاسياد من لا تأخذه لومة لائم في محاربة الاستعباد، فيبسط لهم حريتهم كاملة غير منقوصة، وينفخ في القوانين الميتة روحها، ويزيل بعد ذلك كل الآثار والرواسب.. فتتكافؤ الفرص وتتساوى الحظوظ.. ثم لايغمط حق ولايضيع واجب. ويشفى “السيد” من وهم الفوقية، و “العبد ” من عقدة دونيته..حينها (وهذا ما لايزال منا مناطَ الفرقدين) ستكون الارضية السياسية مناسبة لأن يتحكم “مظلوم”  في رقاب ظالمي الأمس دون أن يجعل منهم مظلومين غداً.

لنتصور مثلا أن زنجيا امريكيا حكم امريكا قبل عام  ١٨٦١.

الموضوع يحتاج للأناة والرويّة ولا يفتقر للعواطف الجياشة التي قد تعمي البصيرة.

لقد جاء  باراك اوباما لأن ابراهام لنكولن كان..  فالأمور التي حققها  لنكولن لم تكن لتتحقق بأوباما في ١٨٦٣، كما أنها ما كانت لتتحقق بمسعود ولد بلخير لو أنه انتخب في ٢٠٠٩.

****

العبودية هي العبودية..خدمية أم عقارية أم روحية أم تبعية اقتصادية.

ولكي تتم معالجة جادة، تستأصل شافة الرق،  وتقتل عقاربه وصَياصٍيه، فإنه لابد من تفعيل قانون تجريم الممارسات الاسترقاقية الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية في ٢٠٠٧، وأن تدرك الأنظمة السياسية أن مسؤوليتها عن الرق لا تتجاوز تقاعسها وتراخيها في معالجته و معاقبة ممارسيه.

كما يجب ان يضلع علماء الدين بدورهم في تفنيد الحجج الفقهية التي تبرر الاسترقاق، في إطار حملة توعية وتعبئة شاملة لكل المناحي السياسية و الفكرية والنفسية، التي تحمل في جذورها بذور الاستعباد.

وتجب كذلك مراجعة قانون الاصلاح العقاري الذي كرّس تطبيقه ملكية الاسياد للأراضي التي يسكنها ويزرعها “العبيد”.

الأرض  للقبيلة.. وبما أن “العبيد” ليسوا منها، وإنما من مواليها، فلا حق لهم في ملكية الارض!.

كما تجب الجدية في تطبيق اجبارية التعليم على الأطفال غير البالغين.. وإحداث تمييز ايجابي في الوظيفة والدراسة،  لصالح ابناء العبيد. وكذلك توخي سياسة اقتصادية مضادة لليبرالية المتوحشة التي انتهجتها الانظمة السياسية المتعاقبة، من اجل تغيير الواقع الحياتي والمعيشي للفقراء، وأغلبهم عبيد..

ولن تجديَ نفعا سياسة “مفوضية مكافحة الفقر” في منحهم السمك، دون تعليمهم صيده.

****
أنت في سجنك ايها البطل الغارق في احلامه آكثر حرية من أسياد الوهم الكاذب.

أنت في  زنزانتك الضيقة كعلبة السردين، طائر يلف بجناحيه الأرض..  ونور يملأ ما بين لابَـتَيْها  شعاع حرية واعتزاز.

لا تهن.. وإن ساموك بالخسف، فمرمى طرفك الشمس..ومضرب قبابك الجوزاء.

لا تلن.. وإن غمزوا قناتك..

ولاتنكسر.. وإن عجموا عيدانك..

ولاتصالح وإن منحوك الذهب!

شاهد أيضاً

جريمة قتل جديدة والضحية شاب في مقتبل العمر

توفي مساء امس في قرية بوگي، الشاب فاضل ولد يرگ (الصورة)، متأثرا بجراحه، بعدما تلقى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *