أشواق لحراطين

أحمد سالم

من أحب الروايات إلى قلبي رواية “ذهب مع الريح” للكاتبة الأميركية “مارغريت ميتشل”، وهي رواية تصف المجتمع الأرستقراطي الإقطاعي قبيل وأثناء الحرب الأهلية في أميركا..

كلما عدت إلى هذه الرواية؛ تملكني إعجاب مَشُوبٌ بالغيرة.. إعجابٌ ببراعة هذه الكاتبة المبدعة في تصوير الوجه الآخر لعلاقة الأسياد بالعبيد.. أعني الوجهَ المشرقَ الجميل!..

من شخصيات الرواية التي تتحدث عنها الكاتبة؛ “مامي” الزنجية السوداء المتفانية في حبها وإخلاصها لأسيادها آل “أوهارا”، ومع ذلك فهي لا تختلف عنهم في “سلوكها وكبريائها وأخلاقها، بل ربما تزيد عليهم!”.

وفي أسلوب ساحر تصورها راعيةً للقيم والأخلاق والتقاليد حين تسألُ ابنةَ أسيادها “سكارلت أوهارا” عن صديقيها التوأمين: “هل ذهب الشابان التوأمان؟ لماذا لم تبقيهما للعَشاء؟ أين أخلاقكِ وتربيتك؟”..

وفي مشهد آخر – مألوف لدينا – تلح عليها – وهي تستعد للذهاب إلى حفلة الجيران – بأن بنات “آل أوهارا” “يجب أن يكن ممتلئات بالطعام قبل ذهابهن إلى أية حفلة، حتى يعجزن عن تناول المرطبات هناك”.. وحين ترفض “سكارلت” تقول “مامي” برقة: “إذا كنت لا تهتمين بما يقوله الناس عن هذه العائلة؛ فأنا أهتم!”..

أما والد العائلة “جيرالد أوهارا” فـ”مع أنه كان يبدو عصبي المزاج ذا مظهر قاس، إلا أنه كان يحمل بين جنبيه قلبا رقيقا؛ لا يتحمل رؤية عبد يتعرض للعقاب أو الضرب”..

وتصف الكاتبة صوتَ “إيلين أوهارا” – والدة العائلة – بأنه “صوتٌ ناعم.. لم يرتفع يوما لإعطاء الأوامر لخادم أو لتوبيخ طفل. لكنه كان صوتا يلقى الطاعة في مزرعة تارا”..

* * *

ما سبب الغيرة التي تجتاحني كلما قرأت هذه الرواية؟

السبب هو أن مجتمعنا عاش علاقة مثل هذه العلاقة بين العبيد وأسيادهم.. لم تجد أبدا من يُوَثِّقُهَا ويصفها كما فعلتْ “مارغريت ميتشل”!

لا داعي للعجلة.. إنني أتحدث عن شيء رأيتُه وعشتُه ورويتُه عمن لا أتهمه..

لست أنكر أن لهذه العلاقة وجها آخر قبيحا، لكنه وجهٌ أُشبع حديثا حتى نسي الناسُ أو تناسوا الوجه الآخر!..

وغَنِيٌّ عن البيان أنني أتحدث عن حقبةٍ تاريخية مضت بما لها وما عليها.. وأننا الآن نطمح إلى نوع آخر من العلاقة بيننا وبين شركائنا في الوطن وإخوتنا في الدين.

غير أن الحديث عن تلك العلاقة الماضية في وجهها الإيجابي؛ نوعٌ من “التوثيق التاريخي”؛ يُنْصِفُ – بعض الإنصاف – قومًا قَدِمُوا إلى ما قَدَّمُوا، ويؤسس لتعايش وانسجام نرجوه لأطياف هذا الشعب الكريم.

يؤسفني أنني لا أقرأ – في ما كُتب حتى الآن عن علاقة الأسياد بمواليهم – قصةً مثلَ قصةِ ذلك الفقيه الجليل؛ الذي ارتفع بكاؤه كطفل صغير وسطَ الحي؛ حين ضُربت أمةٌ مسكينة من طرفِ أحد أسيادها، فاجتمع الناس مرتاعين، ولم يتكرر ذلك أبدا في حضوره..

ويحزنني أنني لا أجد من يوثق حرص بعض الأسياد على تعليمِ “عبيدهم” وتحفيظهم القرآنَ، حتى برز منهم من شارطه أسيادُه على تحفيظ ابنهم القرآن مقابلَ حريته، فوفى بشرطه.. وحاز حريتَه!

يؤلمني أنني لا أرى من تكلم عن ذلك الشيخ الحنون؛ الذي كان يتملكه الحزن إذا لم يسمع “بنجه والمدح”، فيقول في لوعة: لعل الجوع أقعدهم عن ذلك!

لستُ أنسج قصصا من الخيال، لكن يبدو أن ماضينا – في بعض جوانبِه – أجملُ من خيالِ بعضِ الكُتّاب..

* * *

ليس من قبيل المباهاة أنني انتبهت مبكرا إلى أشواق “لحراطين” المكبوتة.. كنت مولعا بالحكايات الشعبية التي كانت تَسْرُدُهَا على مسامعنا – ونحن صغار – “حرطانية” طيبة، تملك خيالاً واسعا وحافظةً مدهشة..

كان بطلُ تلك الحكايات – دائما – فتى من “البيظان” بـ”ـالمواصفات الكلاسيكية”.. وكانت تضج بالفرح والأغاني الجميلة، وذات نهاياتٍ سعيدةٍ دائما!..

تغير البطل “التقليدي” فجأة؛ حين طلبنا من زميل جديد لنا في “اللّوح” – وكان حرطانيا – أن يحكي لنا حكاية من تلك الحكايات.. فجاءت حكايته حزينة.. طافحة بالأغاني المبكية.. كانت قصةَ فتى من “لحراطين” يبحث عن الكرامة له ولأمه وأخواته المسكينات..

لا أكتمكم أن مشاعر الحزن والتساؤل.. ودهشة اكتشاف الجديد؛ سيطرت على قلبي وذهني..

كنت قبل ذلك قد قرأت المجموعة الكاملة لأعمال جبران خليل جبران.. وكما يجد كلُّ قارئ ذاتَه في شخصيات الروايات، وجدتها في كثير من شخصيات جبران، ما عدا شخصية “خليل الكافر” في مجموعته “الأرواح المتمردة”، فقد أحسست أنها تُجسِّد شخصيةَ زميل “اللوح”..

لقبُ “الكافر” هو لقبٌ أطلقه القرويون البسطاء على “خليل”؛ حين هرب من الدير، وتَمَرَّدَ على سلطة رهبانه الجائرة..

وكَرَدِّ فعلٍ شرطي، لا أزال أتذكر زميلي ذاك كلما أعدتُ قراءةَ كلمات “خليل الكافر”، وهو يناجي “الحرية” وسط القرويين المتحررين للتو – بفضله – من الإقطاع المتحالف مع الكنيسة..

“من أعماق هذه الأعماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا، من جوانب هذه الظُّلْمَةِ نرفع أكفنا نحوكِ فانظرينا (…)

في زوايا الأكواخ القائمةِ في ظلال الفقر والهوان تُقرع أمامَك الصدور، وفي خلايا البيوت الجالسة في ظلمة الجهل والغباوة تطرح لديك القلوب (…)

منذ البدء وظلام الليل يخيم على أرواحنا فمتى يجيء الفجر؟ من الحبوس إلى الحبوس تنتقل أجسادنا، والأجيال تمر بنا ساخرة؛ فإلى متى نحتمل سخرية الأجيال؟ ومن نيرٍ ثقيل إلى نير أثقل تذهب أعناقنا، وأُمَمُ الأرض تنظر من بعيد ضاحكة منا؛ فإلى مَ نصبر على ضَحِكِ الأمم؟ ومن القيود إلى القيود تسير رِكَابُنا، فلا القيود تفنى ولا نحن ننقرض؛ فإلى متى نحيى؟”..

لكن أشواق ذلك الزميل لم  تَجِدْ – حتى الآن – من يُترجمها في أدب جميل، كما ترجم جبران أشواقَ “خليل الكافر”..

قبل فترة قرأت للأديب الروسي “بلنسكي” قوله: “إن الجمال شقيقُ الأخلاق.. والصور الفنية الإيجابية – التي تعكس حياةَ الناس ونبلَها وجمالَها –  تفرض الاحترامَ والحب والإعجاب المخلص”..

يتواصل..

أحمد سالم ولد باب

شاهد أيضاً

واشنطن تسمح بمرور مشروع قرار لوقف القتال في غزة

بعد أكثر من 5 أشهر من الحرب في غزة، تمتنع الولايات المتحدة عن التصويت في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *