غربلة في كتاب التوغل في موريتانيا

IMG_٢٠١٧٠٥١٧_١٦٤٦٥١_٢١٥

التوغل في موريتانيا: اكتشافات.. استكشافات..غزو
يقدم الرائد جلييه وهو أحد الضباط الذين قادوا عملية التوغل الفرنسي في الصحراء الموريتانية مطلع القرن العشرين عبر كتابه: “التوغل في موريتانيا .. اكتشافات.. استكشاف ..غزو” رؤية تفصيلية هامة لعملية التوغل المكشوف التي عرفها المجال الموريتاني خلال حقب التاريخ المختلفة، والكتاب نقله إلى العربية الدكتور محمدن ولد حمينا صادر عن دار الضياء في 413 صفحة من الحجم المتوسط. يستعرض المؤلف في الفصول الأولى الجهود التاريخية التي بذلها المستكشفون الأوائل القادمون من حضارة حوض الأبيض المتوسط باتجاه الشواطئ الغرب إفريقية.
سحر الصحراء:
يكشف المؤلف عن حالة ذهنية عاشها وربما شعر بنفس الحالة أيضا مختلف المستكشفين الأوائل يقول: “كانت الصحراء المجهولة في جزء كبير منها تمارس على الأفكار رعبا فطريا وإغراء غامضا، في نفس الوقت ظلت الصحراء الكبرى التي عرفت فقط عن طريق بعض الرحَّالة القلائل بلادَ الأوهام والخداع حيث يتحرك أولئك الرجال غريبو الشكل الملثمون ركوبا على مطاياهم المسرعة وطوابير الجمال الطويلة والقوافل المحملة جدا جالبة إلى الشاطئ خيرات بلاد السودان في مشهد خيالي غريب من ظلال الأساطير والروايات التي هي في الغالب متناقضة، كنا نتصورها أحيانا جنة حيث يعيش مُنمون مسالمون يعتنون فقط بصيانة قطعانهم في واحات قليلة لكنها خصبة، حياة هادئة كعصور العهد القديم، وأحيانا نتصورها عزلة يائسة لا يفلت منها إلا الرحالة المتهورون، اللذين يغامرون فيها من الانسياخ في الرمل المتحرك – إلا ليسقطوا تحت ضربات البدو الذين يرقبون بغيرة حرمة أقاليمهم.
من أين جاء التفكير إذن بأن الصحراء كانت ذات جاذبية شديدة للعديد من الرجال وأنها تترك لدى كل أولئك الذين عاشوا فيها ذكريات الحنين إليها… تلك هي جاذبية الصحراء التي لا تقهر والتى لا تفسر حتى من قبل أولئك الذين عانوها! كم هم أولئك البحارة الذين جابهوا الكائنات الخرافية في الرمال والصخور المكلسة من أجل اكتشاف أسرارها”.
محتوى الكتاب:
يقسم الرائد “جلييه” مراحل التوغل الأوربي والأجنبي عموما إلى ثلاث فترات كبرى تبدأ الأولى من القرن السادس قبل الميلاد وتنتهي سنة 1800 تاريخ الاستقرار النهائي للحملات الفرنسية بالأراضي السنغالية الحالية، ويبرز بجلاء كيف كان القرن السابع عشر الميلادي هو قرن الصراعات الأوربية على شواطئ الصحراء الموريتانية، أما المرحلة الثانية فتبدأ من تاريخ استقرار الفرنسيين النهائي بالسنغال 1817 لغاية بداية دخولهم أرض البيظان”(موريتانيا) سنة 1902 وهي مرحلة عرفت ترسخ الوجود والهيمنة الفرنسية على أقاليم إفريقيا الغربية، أما المرحلة الأهم فهي المرحلة الثالثة التي تبدأ من سنة 1902 إلى سنة 1910 وهي مرحلة التوغل بالمعنى الدقيق؛ بل الغزو الشامل الذي يهدف إلى إخضاع المجموعات القبلية المحاربة ذات البأس الشديد والتى طالما مرغت أنوف الفرنسيين المنتصرين على اضرابهم والشعوب التي غزوها في رمال الصحراء الممتدة، وهذه المرحلة الأخيرة هي التي أسست لموريتانيا الحديثة ككيان سياسي يتميز بخصائصه الجغرافية والسكانية بل والثقافية والحضارية عن دول الإقليم المجاورة بما في ذلك المغرب والجزائر في الشمال والسنغال ومالي في الجنوب والجنوب الشرقي.
المنافسة التجارية بين الدول الأوربية :
أسس الفرنسيون وجودهم في السنغال سنة 1626 أيام قامت الشركة النورما ندية والتي كان مقرها بجزيرة سان لويس التي ستصبح فيما بعد ميناء فرنسيا هاما للإدارة الاستعمارية مارست من خلاله نوعا من التدخل في النسيج الاقتصادي الذي فجر صراعات السيطرة على استغلال الموارد الاقتصادية، وظلت فرنسا دائما تسعى للهيمنة على السنغال وبلاد البيظان – موريتانيا- وفي سنة 1638 وصل الهولنديون إلى “آركين” حيث استلموا هذا الموقع أو الميناء من الأسبان حيث كانت الحرب مستعرة بينهم والهولنديين، وقد حول الهولنديون الموقع إلى مرفأ تجاري حصين” لكن الإنكليز استولوا على الموقع 1665 غير أنهم لم يحتفظوا به طويلا حيث عادت السيطرة الهولندية التي عادت بقوة محاولة نسج علاقات مع شيوخ البيظان، وقد بذل الهولنديون جهودا من أجل تحويله إلى منطقة لتجارة الصمغ ونافسوا السيطرة الفرنسية على هذه التجارة، وقد أثار ذلك تذمر الفرنسيين الذين قرروا غزو الموقع 1682 عبر إرسال بارجة حربية يتألف طاقمها من 450 فردا وقد استولت فعلا على الموقع حيث غادر الهولنديون إلى بلادهم بينما طور الفرنسيون النشاط التجاري بــ”آركين”، وفي سنة 1721استعاد الهولنديون الموقع من جديد ولكن فرنسا استعادت السيطرة من جديد عام1724بعد تشتت الحلف الذي ربط البيظان بالهولنديين.
وقد احتفظ الفرنسيون بـــ”آركين” حتى عام 1758 حيث استولى الإنكليز على المستعمرات الفرنسية في غرب القارة فيما يعرف تاريخيا بحرب الأعوام السبعة.
وقد استعاد الفرنسيون مستعمراتهم التي كان آخرها جزيرة “كورى” سنة 1763 وخلال احتلال الإنكليز لهذه المستعمرات قاموا بتدمير مركز “آركين” و”ميناء هدى” وأرغموا السكان البيظان على استعمال ميناء واحد وهو ميناء سينلوى.
وقد انتهى الصراع الأوربي باعتراف الدول الأوربية لفرنسا بالسيطرة والسيادة على الشواطئ الأطلسية بتاريخ 03 سبتمبر 1783، غير أن الحرب الأوربية اشتعلت من جديد فقام الإنكليز بنزع جزيرة”كورى” سنة 1800 لكن الفرنسيين تلافوا سقوط – سان لويس – عبر عقد معاهدة مستعجلة مع السكان البيظان بعد حلف دام سنتين وصفه الرائد جلييه بالعقيم، وفي سنة 1809 استولى الإنكليز مجددا على المستعمرات بكاملها ولم تستعدها فرنسا إلا في سنة 1814 حيث كان مركز “آركين” و”ميناء هدِّى” قد هدما بالكامل.
ويقدم الكاتب وصفا دقيقا لتجارة المرافئ التي تحكم بها الفرنسيون ويظهر هذا الفصل التحامل الواضح من الإداري والعسكري الفرنسي على التجار و الوسطاء البيظان الذين يصفهم بالجشع وكل النعوت المسيئة كما يتحامل بصورة أكبر على ملوك البيظان الذين هم المسئولون عن ضمان أمن المعارض التجارية ويضيف: “البيظان لديهم بعض الهدوء المشوب بالمكر والخبث يجعل البيض – الأوروبيين – تحت المطرقة فصبرهم وهدوء أعصابهم يشوش على عمل الأوروبيين الذين يريدون إبرام الصفقات بحدة ونفاذ بينما يريد البيضان الحصول على بعض الهدايا …”.
والسلع الأساسية التي كانت رائجة هي بالأساس الصمغ العربي والعبيد وتتم المقايضة لهذه السلع بقطع من قماش “النيله” (قماش بلون أسود يضرب إلى الخضرة، تتسخ الجلود بصباغته عند اللبس) يتراوح طولها مابين 3.5-4 متر ولم يكن البيظان يقبلون سلعة غيرها في ميادين الصمغ.
مستكشفون أوروبيون:
يعود تاريخ الاستكشاف الأوروبي للصحراء الإفريقية الكبرى للعام 1445 حيث اندفع البرتغاليون باتجاه مدينة “وادان” الواقعة على طرق القوافل غير أن القرون الأربعة التالية شهدت ركودا كبيرا لحركة الاستكشافات وقد استعرض جلييه العديد من الرحلات الاستكشافية
بيل لامبرت: وقد جاء هذا المستكشف إلى الصحراء ليس بقصد منه وإنما كان أحد الغرقى الذين أسرهم البيضان وبعد جولات كثيرة أوصلوه إلى تمبكتو ومات بالمغرب مستعبدا ولم يترك أثرا وهو أول أوربي يطأ شواطئ نهر النيجر.
هوكتون: وقد ابتعثته الجمعية الإفريقية التي أسست في لندن لاكتشاف القارة السمراء وهوكتون هذا هو نقيب بالجيش وكان قنصلا بالمغرب ثم قائدا لقلعة “كوري” بالسنغال تمكن من التعايش مع عادات المسلمين والسودان ووضع تصورا للوصول إلى غامبيا وبلوغ تمبكتو من خلال التوغل في أرض البيضان وقد بدأ سنة 1790 مصطحبا معه بعض الخدم السود وقد مات عند بلدة “جارة ” وهي قرية تابعة لسلطان أهل ولد أعمر.
مونكو بارك: استطاع مونكوبارك الذي سلك طريق هوكتون أن يمدنا بهذه التفاصيل عن سابقَيه حيث يرجح أن يكون قد قبله البيضان وقد ركب مونكو في 22 مايو 1795 ودخل “خاي” في مالي ومنها إلى أرض البيضان الذين أسروه وطوفوا به بلادهم قرابة ثلاثة أشهر غير أنه فر منهم عند وصوله “جارا” والتحق بقافلة وصل معها البحر وكان بذلك هو ثاني أوربي تطأ قدماه هذه الأرض.
رومير: وهو من غرقى سفينة “مادين” وقد عرض نفسه في الصحراء للقيام بأبحاث في علم الحشرات فشعر به البيضان واستعبدوه مدة من الزمن ثم أوصلوه إلى سان لويس ودون بعض الملاحظات عن عاداتهم وتقاليدهم كان ذلك سنة1817م.
وفي سنة 1820 نجا التاجر الفرنسي “شارل كوسليه” من الغرق في نواحي “رأس نون” وأخذه بعض البيضان بتلك المنطقة وعاش بينهم برهة من الدهر.
وفي سنة 1825 حصل الملاح “ريني كي” [ولد كيجه النصراني] على رخصة من حاكم السنغال للتوجه إلى موريتانيا متظاهرا بالإسلام وأقام سنة تعلم خلالها مبادئ اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي [وزودنا معلومات عن السكان البدو وبلادهم]
دافيد سون: في سنة 1830 فكرالإنكليز في دراسة الإمكانيات الاقتصادية وحط المستكشف “دافيد سون” في مصب واد نون حيث استقبله زعيم مجموعة “آيت مؤمن” بيروك ولد محمد، ودرس معه إمكانية بناء مرفأ على مصب واد الساقية لتسهيل الاتصالات بين ثكنته والإنكليز.
وفي سنة 1840 جاء القائد بوي لاكتشاف شواطئ واد نون وللبحث عن مكان مناسب لإقامة مرفأ تجاري ولم يتمكن من اكتشاف المواقع فترك المشروع.
وفي أكتوبر 1843 قام العقيد “كاى” برحلة استكشافية قصيرة لبلاد اترارزة وكتب رواية مختصرة عما شاهده.
-بيبوندياني: وفي سنة 1850 تم ابتعاث “ليبولد باني” السنغالي الأصل من قبل وزير البحرية والمستعمرات في مهمة لعبور الصحراء من سان لويس إلى الجزائر وقد تعرض “باني” لصعوبات وأهوال لكنه خرج بنتائج هامة عن عادات وتقاليد سكان المناطق التي مر بها ولكنها من الناحية الجغرافية كانت عديمة القيمة لأنه لم يستطع استخدام البوصلة وكان خلال مسيرته بعيدا عن طرق القوافل ونقاط المياه.
نقيب القيادة العليا “فانصاه”: وقد بدأ هذا النقيب رحلته إلى آدرار بناء على إرادة القائد “فيدرب” لاستكمال المعلومات المتعلقة بالمنطقة بشكل عام وقد غادر “فانصاه” سان لويس مصحوبا بالترجمان مستشار قاضي سان لويس فحط في “دكانا ” حيث أرسل معه محمد لحبيب أدلاء أوصلوه أقصى حدود اترارزة شمالا وقد توغل “فانصاه” وأتى بنتائج متنوعة جغرافية وبشرية وقد قابل أحياء وأمراء وقادة تلك المناطق وعاد بتصورات واضحة عنهم [الصفحات 95-100]
ولد أبن المقداد: وقد بدأ رحلته من السنغال يوم 10 دجمبر 1860 مصطحبا معه بعض البضائع للمقايضة وقد جاب مناطق واسعة جدا بدئا بالترارزه ولبراكنه وانتهاء بإنشيري وآدرار وأقاليم تيرس زمور وجنوب المغرب مرورا بالصحراء الغربية حيث مر بكل الشخصيات الهامة والمناطق والمراكز التجارية وطرق القوافل ورحلته ذات هدف سياسي بامتياز حيث يريد الفرنسيون أن يقفوا على مقاومتهم القديس قداسة الحاج إلى البيت الحرام إضافة إلى اكتشاف آليات الحراك في المناطق التي مر بها وقد أتسمت كذلك رحلة 1860 فيما يتعلق بموريتانيا بثلاث رحلات استكشافية أقل أهمية إحداها رحلة الملازم السنغالي الأصل “عليون صال” إلى لبراكنه والحوض ورحلة ضابط البحرية “بورل” إلى لبراكنه وآخرها رحلة الملازم البحري ” ماج ” إلى تكانت.
رحلة بورل إلى لبراكنه: وقد بدأت في شهر يونيو 1860 وكان من نتائجها اكتشاف بحيرة ألاك وتعرف على الأودية التي تنحدر من هضبة تكانت ومر بــ”كيمن” ثم عاد إلى نقطة البدء مرورا بشمامه.
عليون صل: أقام في لبراكنه ثلاث أشهر أستطاع خلالها إصلاح ذات البين بين أولاد نغماش وأولاد السيد قبيلة الأمير وتوجه إلى تكانت ونزل عند بكار الذي استقبله بفتور مع أن “صل” أكد لبكار تخليه عن خدمة المسيحيين وأنه الآن متوجه إلى مكة للحج إلا أن ذلك لم يزل ربب بكار.
ماج يسونكي: وهو ضابط من البحرية تم تكليفه بالقيام بمهمة دراسية لتكانت وقد وصل “ماج” فعلا إلى بكار بعدما لاقى مزيدا من الإذلال وتم تجريده من كل ما يملك وقد منع بكار ضيفه من التجوال في الحي حيث كان يعتقد أن الأوروبيين بمجرد رؤيتهم لهذه البلاد فإنهم سيستولون عليها.
وبالجملة فالكتاب يقدم في هذا السياق معلومات هامة عن الرحلات الاستكشافية قد تكون مفيدة للمؤرخين والكتاب والإعلاميين بوجه عام.
كامل دولامن: وتلاوته آيات من القرآن
في سنة 1887 بدأ “كامل بولس” رحلته ومر بأولاد أدليم الذين تظاهر لهم بأنه مسلم لكنهم اطلعوا فورا على أنه مسيحي فنهبوه وضربوه ودفنوه حتى الذقن في الرمل تحت شمس محرقة لكنه كان حاضر البديهة فتلا عليهم آيات من القرآن بصوت عال فخشي البيضان أن يكونوا غلطوا في حقه وأنه ربما يكون مؤمنا حقا فانتشلوه من الرمل وقدموا له العلاج المناسب ، وقد عاش في ذلك الحي زمنا وتعلق بفتاة منهم وحصل على إذن بالسفر للإتيان بالمهر… فخرج إلى المغرب ولم يعد..للمحبوبة! .
غرق سفينة المشاة “لمديز”:
يستعرض الرائد جلييه في كتابه حكاية غرغ السفينة “لمديز” حوالي 1854م التي تحمل كتيبة من المشاة في الجيش الفرنسي وقد جنحت “لمديز” إلى جزيرة “آركين” ويغوص “جيليه” مستعرضا تفاصيل الجهود التي بذلتها قيادة القوات الفرنسية في المنطقة وكيف تعاونت مع الإنكليز المنافس الرئيسي للفرنسيين، ويصف مشاعر الفرنسيين الناجين وكيف أنهم كانوا في سيرهم إلى السنغال بالمحاذاة للشواطئ الموريتانية يحفرون الأرض ليجدوا مياها بيضاء كريهة الرائحة ولكنهم يجدونها عذبة سائغة وكيف كان يتملكهم الرعب من الوقوع في أسر “البيضان” حيث سيلاقون تعذيبا بشعا أو أنهم سيباعون من طرف البيضان عبيدا لملك المغرب وكلما شاهدوا من بعيد أحد البيضان الأجلاف نادوا بإظهار ما لديهم من أسلحة حتى يعطوا لأنفسهم مظهرا جليلا ولكن سرعان ما جاء هؤلاء البيضان مصادقين ليوصلوا الغرقى إلى سان الويس.
غير أن قصة “لمديز” أكثر شناعة فهؤلاء الذين لاقوا الأهوال ليسوا إلا أقلية استطاعت التخلص بسرعة وثمة طائفة أخرى من الغرقى حطت شمال “ميناء هدي” ولم تصل إلا بعد أيام من من مقاساة الآلام الفظيعة تاركين خلفهم بين ثنيا الكثبان 14 جثة.
والفرقة الثالثة هي التي توجد على متن “الطوق العائم” والذي كان مربوطا بالسفينة وقد وجده القارب المسمى “لارجي” الذي أرسل للبحث عنه ولم يبق على متنه من 147 شخصا إلا 15 شخصا مشرفين على الهلاك مترامين بين الأجساد البشرية المخضرة كما لوكانت على خشبة جزار وبحوزتهم علب مملوءة من البول الذي كان هو الوسيلة الوحيدة لسد رمق الأحياء.
ويسجل جيلييه كيف كان الإنجليز سيئ التصرف تجاه هذه الكارثة مع أنه كان بإمكانهم المساعدة في إنقاذ السفينة الفرنسية على نحو أفضل استجابة لمضامين الاتفاقيات التي كانت قائمة بين الدوليتين.
وبعد هذه الحادثة بدأ العقيد “شمالز” يشن حربا على اترارزة الذين يعبرون النهر لنهب الضفة اليسرى والذين يدعون أن لديهم حق السيادة على ناحية “الوالو”.
ويستعرض تفاصيل التنافس الفرنسي الإنكليزي وكيف بدأت الحروب الأولى مع اترارزة من أجل أن يحكم الفرنسيون سيطرتهم على الضفة الأخرى وعقد تحالفات مع أمراء اترارزة حيث قام العقيد “شمالز” بعقد تحالف قوي مع امحمد ولد اعلي الكوري تعزز بعقد تحالف آخر بواسطة محمد مع “الولوف” و”إدو الحاج”.
غير أن التحالفات التي عقدها الفرنسيون مع هذه الأطراف سرعان ما ظلت تسقط وبدأت الحروب التي دامت عشرات السنوات وكان الطرف المنتصر دائما فيها يعيد صياغة شروط التحالف بصورة أفضل بالنسبة له كما كانت حالة مراعاة السياسية الفرنسية لمنافسيها الأوربيين تتيح للإمارات الحسانية شروطا أفضل بحكم التنازل الفرنسي المدرك لموازين ومآلات الصراع المتطور بفعل تعددية المتنافسين الأوربيين.
وتعتبر معاهدة 1821نموذجا في هذا السياق حيث اعترفت فرنسا للترازة بحقوقهم في “الوالوا” ويتعهدون هم في المقابل بالسماح وحماية المشاريع الزراعية التي تنشأ على ضفتي النهر واستمرار اتراتزة في تحصيل رسوم كثيرة والأخذ من السود الذين هم غير مواليين لنا… ومن جهة أخرى تعهدنا نحن بان نعيد إلى البيضان العبيد الفارين والأتباع الفاريين كما نتعهد بألا نتدخل في شيء من أمور اترارزة الداخلية فيما بينهم يقول الرائد جيلييه.
كما سمحت إمارة لبراكنة للفرنسيين بإقامة مراكز في بلادهم كما أبرمت اتفاقية مع إدوعيش يقول جيليه وتم الإتافق على أن يقدموا إلينا في محطة “بكل” حيث أنشأ النقيب أو القائد “دي.مسلاي” مراكز سنة 1818.
غير أن أمراء البيظان كانوا دائما ما يعيدون مراجعة هذه الاتفاقيات بناء على إدراكهم وتوظيفهم للتنافس الفرنسي الإنكليزي.
محمد لحبيب مفاوض محنك:
ويستعرض جلييه معالم هامة من شخصية أمير اترارزة الأشهر محمد لحبيب الذي الذي عقد اتفاقية مع الفرنسيين 1829.
ويعتبر جلييه في كتابه أن محمد لحبيب الذي يصفه بأنه امير اترازة الكبير الذي وجد الفرنسيون معه التفاهم لمدة ثلاثين سنة ويعتبر أن محمد لحبيب “كان مفاوضا ماكرا أكثر منه محاربا ماهرا” “حيث نجح خلال سنوات عديدة في لعب سياسة متوازنة تمكنه من الاستفادة من الطرفين”يعني الإنكليز والفرنسيين المتنافسين على الشواطئ والمرافئ التجارية الموريتانية- (ص70).
وفي سنة 1833 تزوج الأمير محمد لحبيب جنبت ابنة ملك “الوالو” وكان من نتائج ذلك تجميع “الوالو” في يد البيظان.
وهو ما أدى لاندلاع حروب بين اترازة والفرنسيين انتهت بإخضاع الفرنسيين للترارزة كما يقول جيلييه حيث التزمت اترارزة بمضمون اتفاقية 1835 وتنازلوا عن كل حق وراثي على أقاليم الضفة اليسرى للنهر.
وخلال سنوات 1843-1844 حصلت مناوشات حيث انتهز الأمير محمد لحبيب فرصة الغليان الحاصل في السنغال بسبب تحرير العبيد فأعلن ابنه اعل وريثا على “الوالو” وأعلن بأنه ذهب ليصلي في كنيسة سان الويس وأنه سيرمي البيض (النصارى) في البحر.
ويستعرض الرائد جلييه في (الصفحات 74 إلى 82) قصة صراعات عسكرية وغزوات قام بها الأمير محمد لحبيب وقد نجح مرات عديدة في إنزال خسائر فادحة بالفرنسيين غير أنه أيضا وجد نفسه مرغما على الانصياع للفرنسيين بفعل عوامل الصراعات ما بين الإمارات الحسانية ذاتها من جهة وربما الصراعات داخل البيت الواحد حيث بدأ الفرنسيون يتعرفون بصورة أكبر على البيظان وصراعاتهم ولم تكن اليد الفرنسية لتتجنب أساليب تغذية الخلافات الداخلية والعمل على تفتيتها من الداخل.
تحرير العبيد وسيلة للتحكم الفرنسي:
استطاع الفرنسيون خلال هذه الفترة تحرير العبيد وبالتالي التحكم بصورة أكبر في إعادة صياغة الحياة الاقتصادية والاجتماعية بصورة تمكن الفرنسيين من الإنغراس على نحو لا تراجع معه في مستقبل نسيج تحولات المنطقة فهم من ناحية سيضعفون سيطرة الأروستقراطيات التقليدية التي تشعر بالندية تجاههم، وفي نفس الوقت تشكل عائقا سياسيا لمشروعهم وهم من ناحية أخرى من خلال خلق ديناميكية لتحرير العبيد الذين سينشئون طبقة جديدة موالية لهم وتشعر أكثر بالمنة تجاههم وبالتالي تشكل رافعة هامة لترسخ المشروع وثباته ونمائه مستقبلا في المنطقة بشكل عام.
سلعة الفستق تعوض تجارة العبيد:
استطاع الفرنسيون فعلا أن يوقفوا بشكل جزئي تجارة العبيد التي أصبحت محرمة بصورة علنية في مناطق سيطرتهم ولكن سلعة الفستق الذي ظل مهجورا تقريبا إلى عام 1954 عوض فقدان تجارة العبيد وقد قام الفرنسيون بإنشاء مراكز تجارية لتسويق هذا المنتج الذي أخذ مكانته بين السلع الأخرى: الصمغ والذهب والعاج والريش وهي سلع المبادلات المربحة اقتصاديا في تلك الفترة.
تجدد الصراع على الإمارة خلال فترة 1867-1902:
في سنة 1860 قتل محمد الحبيب الذي لبث في السلطة 28 سنة قتله أولاد إخوته بسبب المعاهدة التي وقع مع الفرنسيين (..) فقام ولده البكر سيدي بالانتقام من القتلة بقتل أبناء عمه التسعة وخلف والده في السلطة.
وفي سنة 1871 قام إخوة سيدي السبعة بقتله وقتل أخويه الشقيقين ولكنهم لم سيتفيدوا من جريمتهم فقد تألب الترارزة ضدهم لصالح اعل الذي أمه “سودانية” اسمها “جنبت” كانت ملكة “الوالو” وزوجة ثالثة لمحمد لحبيب فتمت مطاردة الإخوة وهربوا وقتل منهم العديد وتأمر المولد “اعل” على اترارزه.
فقام سنة 1877 بتجديد اتفاقية حسن العلاقة مع الفرنسيين وألحق بها ابروتكولات إضافية أخرى في أوقات لاحقة.
وفي سنة 1886 اغتيل الأمير وزجته وأبناؤه ما عدا واحدا منهم اسمه أحمد سالم ليلا في خيمتهم على يد محمد فال الولد البكر للأمير سيدي.
وبعد ذلك بشهور قليلة قتل محمد فال على يد عمه أعمر سالم آخر أبناء محمد الحبيب والذي فر إلى سان الويس ونجح في جمع مناصرين لأخيه “اعل” فأعلن أعمر سالم أميرا ووقع سنة 1887 اتفاقية مع حاكم السنغال يتنازل بموجبها عن كل حق له أو دعوى في الضفة اليسرى للنهر مقابل التمسك برسم 1500 قطعة من “قماش النيله” ويضمن حرية وأمن تجارة الصمغ وإسعاف الغرقى.
واستمرت الحرب بين اترازه بينما مكن الفرنسيون لوجودهم من خلال إبرام معاهدات مع “إدوعيش” 1880، بينما الفتى “أحمد سالم” الذي نجي من مذبحة أسرته وتربى في سان لويس وهو حليف للفرنسيين أعلن الحرب على عمه وهجم عليه سنة 1893 لدى موضع “سهوت الماء” واستولى عليه وأمر بذبحه (بل أمر ولد الدريكة بقتله فأطلق عليه النار) وأبرمنا يقول الرائد جلييه اتفاقية يوليو1895 لحماية مزارع السود في الضفة اليمنى للنهر وعلى نفس المنوال سار أمير لبراكنه “سيدي أعلى” إضافة إلى مجموعات أخرى من بينها “أبكاك”.
وبعد ذلك بسنوات قليلة قُتل أحمد سالم -بن اعل- أمير اترازة غدرا من ابن عمه ولد الديد الذي كان يعتاد القول:”إن أيا من أسرتنا لا يصل إلى شيء مالم يَقتل واحدا أو اثنين من أقاربه الأدنين”.
جلييه يفسر عشق المحاربين البيظان للصراع:
حيث يعتبر أن ثمة سببين رئيسيين:
1- فقدان الإمارات الحسانية للضفة اليسرى للنهر التي كانت تشكل مجالا لحروبهم وغزواتهم التي يعيشون عليها ويجد قادة هذه الفصائل فرصة مناسبة للسلب والنهب في حال الفوضى.
2- الأمراء المضطرون لتقليص العطايا لأتباعهم الثائرين الهائجين يصنعون معارضين مناوئين ويدفعونهم للعنف لعلمهم بأنهم الرابحون من هذه الحروب يتداولون الالتفاف حول هذه الفئة أو تلك حسب أهمية الهدايا والعطايا التي تقدمها.
كبولاني وإستراتجية المفاوضات :
ويكشف الكتاب كيف أن الإدارة الاستعمارية اعتمدت الدبلوماسية كأساس للتوغل في الصحراء الموريتانية بعد ما اقتنعت بضرورة إخضاع المحاربين في البلاد خدمة لأهدافها الاقتصادية والتجارية بعد ما تأكدت من وجود ثروات طبيعية وقد قاد عملية التوغل هذه ذات الشعارات السلمية القائد الفرنسي كبلاني الدارس للإسلام واللغة العربية وقد كلف بمهمة التفاوض مع القبائل العربية في السودان الفرنسي 1898 حيث لاقى نجاحا كبيرا وقد دخل في مفاوضات مع “أولاد علوش” و”مشظوف” الذين وقعوا معه اتفاق سلم بعد مفاوضات تعثرت عدة مرات.
وفي 1ابريل 1905 هاجمت قوة فرنسية يقودها افرير جاه مخيم إدوعيش حيث استشهد الأمير بكار في المعركة عند موضع بوكادوم ويصفه جيلي بأنه “عدو الفرنسيين اللدود الحاذق المحارب وهو مسن يبلغ من العمر 97 سنة والذي تعاطي مع كل الحكومات الفرنسية.
وفي 12 مايو 1905 هاجم سليل العترة النبوية الشريفة الشاب سيدي ولد مولاي الزين صحبة
عشرين من الشبان ينتمون للطريقة الغظفية القادرية حامية كلاني وأردوه قتيلا وعددا من جنوده.
وهي العملية التي أعطت لحركة المقاومة التي تقودها قبائل هامة في الشرق مسندة بطرق صوفية في الشمال روحا جديدة.
وبعد مقتل القائد الفرنسي العام ذي المهارات التفاوضية والإستراتجية عينت الحكومة الفرنسية خليفته الذي عمل ترسيخ عملية التوغل من خلال مضاعفة الوجود في الدوائر التي وصل إليها سلفه في خمس مناطق عسكرية هي:”أخروفة” و”بوتلميت” و”مال” و”كيهيدي” و”تجكجة” وزود القائد الجديد بثلاث فرق من الرماة السنغاليين في “بوتلميت” و”تجكجه” و”كيهيدي” مع مفرزة في “أمبود”.
وقد مثلت سنوات 1903 – 1905 أهم السنوات التي بدأت فيها عملية الإخضاع والسيطرة الكاملة على المجال الترابي في منطقة أترارزة ولبراكنة وأجزاء كبيرة من لعصابة وتكانت التين ظلتا شوكة قوية في خاصرة الاحتلال الفرنسي لموريتانيا لإضافة لمناطق الشمال خصوصا آدرار الذي لم يكتمل التوغل فيه إلا 1912.
وقد تواصلت عملية الإخضاع الفرنسي للقبائل والمجموعات العربية ولكن وجود الاحتلال الفرنسي لم يأخذ طريقه النهائي إلا خلال الثلاثينات التي أحكم فيها الاستعمار سيطرته على البلاد والمنطقة بشكل عام.
وهذه المرحلة الأخيرة هي التي أسست لموريتانيا الحديثة ككيان سياسي يتميز بخصائصه الجغرافية والسكانية بل والثقافية والحضارية عن دول الإقليم المجاورة بما في ذلك المغرب والجزائر في الشمال والسنغال ومالي في الجنوب والجنوب الشرقي.
ملاحظات ختامية:
1- يقدم الكتاب مادة تاريخية هامة عن تاريخ حركة الحرب الاستعمارية والإخضاعية التي ما رستها فرنسا في المجال الموريتاني خلال القرون الثلاثة الأخيرة وهي وجهة نظر تفيد في استكمال الصورة الكلية عن ما يسمى في المصطلح الدارج “بالاستعمار” غير أن وجهة النظر هذه على أهميتها من وجهة النظر التاريخية البحتة تبقى وجهة نظر طرف يكتب التاريخ بروح الانتصار العسكري وهي روح تبعث على الشك في ما يتعلق بموضوعية الرؤية التي يقدمها هذا العمل الهام تاريخيا ووثائقيا المفتقر للمعايير التاريخية الكافية للوثوق فيه.
2- يتناول الكتاب المقاومة التي واجهتها عملية الغزو الحربي العدواني الفرنسي بكثير من روح “النقمة” و”الحقد” التي تقلل من مصداقية الكثير من المعلومات المتعلقة بالخسائر الحربية للطرفين في المعارك التي يتناولها كما يقدم أو صافا للطرف “المقاوم” تبتعد عن الموضوعية والإنصاف حيث يصف هذه المجموعات بأنها مجموعات نهب وعامل عدم استقرار كما تحامل بشكل كبير على القادة السياسيين والدينيين من العلماء والأمراء بشكل كبير خصوصا الشيخ ماء العينين والأمير المجاهد بكار ولد أسويد أحمد.
3- يكشف الكتاب بصورة واضحة الدعاية الفرنسية الخادعة التي تعتبر موريتانيا بلدا فقيرا وغير مغر بإلإحتلال كأن الفرنسيين الذين خاضوا لعشرات السنوات حروبا دامية كنوا فاعلي خير للشعوب التي غزوها ويقدم صورة تفتقر إلى المصداقية عن حاجة البلاد للسلم الذي يتحدثون هم أنفسهم عن فرضه في هذه الربوع ولكن بأساليب حربية تعتمد القتل والتشريد وإن رفعت شعار السلم والتفاوض الخادع.
4- توجد في الكتاب مادة مفيدة للكتاب والباحثين والمؤرخين وحتى الإعلاميين عن الوقائع والأحداث والرحلات الاستكشافية التي قادها مغامرون فرنسيون إضافة إلى تفاصيل مفيدة عن الحياة السياسية والاقتصادية والجغرافية والسكان المحليين وعاداتهم وعن تحولات نحل المعاش في الإقليم بشكل عام.
5- يتميز العمل من حيث الترجمة بلغة جميلة وسلسة وأسلوب أخاذ لكنه خلا من تعريف كاف بالأعلام كما خلا من تعليقات كانت ضرورية لإظهار التناقض بين بعض الطروحات الدعائية كما أنه أغفل التعريف ببعض الأعلام الجغرافية التي هي الآن شبه مندثرة وكان المترجم أمينا في نقل عمل صاحب النص الأصلي دون بذل جهد تحقيقي كان ضروريا في بعض الأحيان لإغناء الكتاب

شاهد أيضاً

واشنطن تسمح بمرور مشروع قرار لوقف القتال في غزة

بعد أكثر من 5 أشهر من الحرب في غزة، تمتنع الولايات المتحدة عن التصويت في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *