ديمي والعَلَم الموريتاني

لندن، 1989. لولة بنت آبّة في أوج مجدِها الفنِّي. بل قد نُسيَ اسمها الأصلي وغلب عليها اسمُها الفنِّي: ديمي. زوجها، الراحل الخليفة ولد أيدة يضرب الآردين والقيثارة بينما ترقص الصغيرتان: بنتُها من أبٍ سابق: فيروز بنت سيمالي وأختُها: كَرمي من آبّة. وستُنتِجُ تلك الجلسة، التي سجّلها “وورلد سيركويت” بعنوان “موسيقى بيضانية من موريتانية” (Moorish Music from Mauritania) وأُلطِقت في 1990، أهمّ الأغاني الوطنية الموريتانية، بما فيها التغنِّي بالعلم الأخضر ذو النجمة والهِلال.

وُلِدت ديمي في 1958. وكانت ترجمة لتحوّلات وطنية في السياسة الموريتانية. فالجيل الذي مثّله والدُها كان أيضاً كان أوَل جيل وطني. وكما قُلنا دوماً بصيغة هيغلية فالوطنية هي حالة تنشأ في ظلِّ الاستعمار، استنباطاً ومُقاومة. وقد مثّل الجيل الموسيقي الوطني الأول: أحمدو ولد الميداح وإسلم ولد نفرو ومنينة بنت علي والمحجوبة بنت الميداح. لقد اختلَفوا عن الموسيقى القديمة التي مثّلها آل أساتيم وآل أعمر تيشيت (وإن كان هؤلاء سيتحدّثون على منوالِهم لاحقاً). ففي الأأربعينيات والخمسينيات بدأوا يُنتِجون نمطاً جديداً يتميّز بسرعة الإيقاع وتحوير الأاشوار الأقدم وبدأوا يُنتِجون نمطاً يتجاوز المدارس الجهوية إلى روحٍ وطنية عامّة.

وكان سيداتي ولد آبة (وُلِد 1924) من أصغر ذلك الجيل الوطني. ولكنّه أكثر من مسّته إرادات التحديث. ويجب ألاّ ننسى أن هاجس نظام المختار ولد داداه والحركة الوطنية الديمقراطية في الفن كان خلق أوبرا موريتانية. وقد أرسِل الفنّانون الموريتانيون بالفعل لاستنباط السيمفونيات والأوبرات واستدخالها في الفن الموريتاني. وسيبرز في هذا ثىث عباقرة: سيداتي نفسه، وسيمالي ولد همّد فال والحضرمي ولد الميداح، الذي كان نفسه مناضِلاً يسارياً من حركة الكادحين، وقد طوّر الموسيقى الشبابية وأعطاها بعداً مُغايِراً. وسيكون لكلّ هؤلاء مدرسة أو أثراً عميقاً.

فأما سيداتي فأنه سيعبُر للأجيال بأنه مُلحِّن النشيد الوطني وقد استدخل في ذلك السيمفونيات السوفياتية، التي أرادت استدخال نفس بروليتاري معادٍ للبرجوازية الحالِمة الغربية. وقد تجافى سيدايت وارتفع وتألّه (بالفصحى القديمة، لا الحديثة). أما ديمي منت آبّة، ابنتَه وأثَره الأهَمّْ فقد شكّلت انعطافة في الموسيقى الموريتانية عندما بدأت الإذاعة بثّ أغانيها في 1976. وقد شاركت في نفس العام في مهرجان الغناء العربي بتونس؛ وفازت بالمرتبة الأولى فيه. وكان ذلك من أوائل الانتصارات المعنوية، وبالأخصِّ الفنيّة للموريتانيين. وكان أغنيتُها هي أغنية “ريشة الفنّ” وهي أغنية افتخارية وطنية لمناضِل يساري هو الشاعر أحمدو ولد عبد القادِر.

بلغت ديمي بنت آبّة مجدها الوطني في أغنية “موريتاني”، التي شادت بالعلم الأخضر بالنجمة والهلال. وكان ألبومها في 1990 ممارسة تحرّرية إذ غنّى لنلسون مانديلا ولحرية المرأة وأن يكون لها الحقّ في تزويج نفسها، وهي أيديولوجيا ظلّت ديمي دوماً وفية لها. وقد ضمّ الألبوم أيضاً أغاني أُخرى في الفخر الوطني، الذي يقول الآن تاريخ ولد باي إنه لم يكن موجوداً.

لقد غادرت ديمي عالمنا في الرابع من يوينو 2011 قبل الأوان. ولكن كان العلم الموريتاني قد خلّدها فإنه خلّدته بأغانيها، التي ستجعل طمسه صعباً.

من صفحة الكاتب على الفيسبوك

شاهد أيضاً

بدأ اجرٱت دمج قطاع أمن الطرق داخل جهاز الشرطة

أصدر المدير العام للأمن الوطني الفريق محمد الشيخ محمد الأمين الملقّب “ابرور” اليوم الثلاثاء مذكرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *