رحلة الشتاء!


حياتنا مجرد سفر عابر، فيوم ولادتنا هو الانطلاق ويوم موتنا هو الوصول. وبين الانطلاق والوصول تتأرجح الطريق بين المشقة واليسر. الأسفار الصغيرة تزرع في قلوبنا دائما الكثير من الحكم، والحكمة الباردة التي زرعها هذا السفر في قلبي تقول: لا تسافر في فصل الشتاء دون بطانية(امبجو)، فعندما يَتنزل البرد القارس على صحراء آوكار في هزيع من الليل، سترى أجساد الرجال المنكمشة تحت الأغطية الغليظة ولسان حالها يقول لك بصمت مُبرر: ” نفسي نفسي “.
ارتديتُ قميصين غليظين وسروالين أحدهما من الجينز، وانتعلت أحذية رياضية كتيمة وكورتُ العمامة على رأسي على طريقة الطوارق، ولبستُ جلابية حتى تحولتُ إلى رجل من القماش(شراويط) وأعتقد أنني كنتُ دائما ذلك الرجل. ودعتُ مدينة تيشيت الهادئة والطيبة وقد تركتُ فيها ثلث أوراقي وثلث قلبي وشهرين متتابعين من التقوى والتدريس، إنها مدينة تجعلك تتعرف على روحك وتألفها..
منتصف النهار وحفنة من الدقائق، الضباب والرياح العاتية يخيمان على المدينة، وخزان سيارة من طراز تويوتا لاند كروزر يرتشف البنزين بتباطؤ عند المحطة كأنه يريد أن يرتوي. الرجال ملثمون تماما مثل قسمات الأقدار، وحوض السيارة يكتظ ببضائع متباينة السمك كأنها منحنى كثبان بعيدة. دلفتُ الدكان على عجل، ركضت نظراتي بين الرفوف تبحثُ عن حاجتها، عبأت مخلاتي بعبوات الماء والبسكويت والحلوى واللبن، وضعتهم فوق خليط من التمر المسحوق والفول السوداني كانا فيها، أحكمت رباطها حتى لا تُصاب بالميد وتلفظ ما فيها أثناء صعود السيارة وانحدارها مع التلال. اقتنيت علبة كبريت مع أنني لا أدخن، فطيلة حياتي دخنتُ سيجارتين فقط، الأولى كانت في بواكير المراهقة، دخنتها حتى أثبت للحياة أنني أصبحت رجل، والثانية دخنتها بعد أزمة عاطفية خانقة مازالت رائحتها تتصاعد من قلبي، دخنتها بعد أن أقنعني صديقي بأن مادة النيكوتين تساعد على النسيان، وربما أدخن سيجارتي الثالثة قريبا وأطفئها بقدمي عند بوابة وزارة التعليم وأتلاشى مع دخانها لنذوب معا في هواء الأقدار.
الماء والنار نقيضان لابد من التزود بهما معا في السفر وفي الحياة أيضا. ركبنا، وقد كنتُ رابع ثلاثة في حوض السيارة الخلفي والمكشوف، نفث عادم السيارة دخانه في وجوه المُودعين، كانت سبابة سيدة تتحرك بشكل حلزوني نحو السماء وتدعو لوالدها معنا، وكانت أجساد المودعين الآخرين ثابتة في المكان كجذوع النخيل، كنا نبتعدُ في مسارنا ووجه المدينة يبتعدُ وراءنا، كأننا قارتان تنفصلان إلى الأبد. عندما بدأت بيوت المدينة تتوارى وراء ضباب الغياب، بدأت تفاصيل ذكرياتها تتجلى في القلب بكل وضوح، كأنها شمسها أشرقت فيه للتو، المدنُ ليست كالبشر لا تبعثُ يوم القيامة، لذلك وداعها يكون دائما عسيراً…
كانت الساعة الواحدة زوالا وبضع دقائق، عندما بدأنا نخرج من أرض المطار الصلدة والحمراء، توقف السائق وأطلق سراح بعض الريح من عجلات السيارة استعدادا منه للرمال الرخوة، توارت معالم المدينة عنا وبقي النخيل برفقتنا حتى أطلال خيام الرماية التقليدية التي نصبوها في فلاة رحبة أيام مهرجان المدن القديمة، كانت عظام الحيوانات العارية وعلب المشروبات الغازية الفارغة وآثار رباعيات الدفع تغطيها، مما يوحي بأن القوم أسرفوا على أنفسهم. عندما توغلنا عدة كيلومترات ودعت هواتفنا الشبكة، كانت التلال مثل التوائم الحقيقية متشابهة لحد بعيد، وكانت تضاريس الأرض مبعثرة القسمات، كأنها تشكّلت في ليل بهيم من عصر جيولوجي قديم، فمنذ عقود لم تسلكها سوى قوافل الملح(مرسال)، وعلى طول مائة كيلومتر منها توجد بئر واحدة، إنها أرض بكر لم تطمثها المساكن بعد، كثبانها مغطاة بنباتات السبط، وهي نباتات ذات عروق طويلة ونحيفة مصفرة وخضراء جاثية فوق الرمال، كأنها رؤوس فتيات يافعات لا تسريحة محددة لها، كانت السيارة تنحدر باستمرار بين التلال، ومن أصعبها مرتفع رملي كان يسمى ” أعوج جنبو” وبعد ترويضه أصبح يسمى ” مطلع السلام “، كان الأفق يختنق بحيث تبدو الشمس كأنها ستغرب وهي مازالت في كبد السماء بسبب طول التلال وتلاصقها، كانت سفوح التلال تكثر فيها أشجار السرح(آتيل) ونباتات الحنظل(حدج لحمار) المتسلقة، وفي أحدها رأينا حيوان الضب وهو يخرج من غاره، والذي يقال بأن لحمه مفيد لمرضى السكري. عند الساعة الثانية وعشرين دقيقة ظهرت لنا شجرتان من السيال(الطلح)، وبدأت تظهر في الأرض وبمسافات متباعدة نباتات الثمام(أم ركبة) وأعشاب ” أم لبينة ” الصغيرة، تناولنا خبزا تيشتيا مستديرا وتمرا على ظهر السيارة، مررنا على قافلة منتظمة من الجمال وجهتها سبخة الملح(مرسال) كما يبدو من ظهور جمالها الفارغة من البضائع، سلم علينا أحد أفرادها عن قرب وهو حافي القدمين، تأملت كلماته جيدا، كان ذهنه صافيا مثل السماء، وقد قال بأنهم قوم لا يكثرون من طرح الأسئلة عندما استفسره الركاب عن شيء لم يكن يعلم خبره. ظلت الأرض متشابهة تكسوها نباتات السبط وبعر الإبل، مع ظهور متباعد لصفائح من الطوب الصلب والرمادي اللون كأنها مغطاة بغبار الاسمنت، وأحيانا ترابا حمراء أظهرها تقلب الجمال والنوق فوق أديم الأرض، ربما هذه الأرض البكر تُخفي شيئا في أعماقها…
بعد قطع 70 كلم تقريبا وعندما شبًّ المساء، وصلنا بئر آگميمين المحفورة في السبعينيات، جمعنا صلاتي الظهر والعصر معا، واحتمينا بخيمة منصوبة بجانبها يقطنها عمالُ البئر الجديدة، شربنا الشاي المُعد على النار، وعندما بدأت الرياح تعوي وصغار الماعز تحتمي بدفء الخيمة وأغصان السبط تُصَفْر، قال لنا أحد الرجال إن تلك الأصوات هي رسائل البرد. بعيد صلاة المغرب تناولنا مرق اللحم والخبز وصببنا عليه الزيت ليمنحنا الدفء، وبدأ سمر طويل بلا أرصفة، تنقلت مواضيعه بين الذهب والسياسية والجن وكرامات الصالحين والبنادق وأشياء أخرى. عندما سمع أحدهم حنين النوق، قال بأن أوان حلبها قد آن وإلا فإنها ستمسكُ لبنها في ضروعها، حلبوها وارتشفت جرعات من لبنها منحني بعد الطاقة جعلني أكفُّ يدي عن العَشاء. منحني أحدهم جلابية غليظة ومنحني آخر جلابية أخرى، وأصبحت أرتدي حمولة بعير من القماش، خلدنا للنوم.
في هزيع من الليل، استيقظت وكأن الهواء يمرر على جسدي قطعة ثلج صلبة، تقلبتُ وشددت الغطاء دون جدوى، خرجت من الخيمة وتأملت السماء المرصعة بالنجوم، كانت الرياح وحدها تتحرك، تذكرت أحاديثهم عن الجن وكرامات الصالحين، تمنيتُ أن تظهر جنية من بين نباتات السبط وهي تحمل لي بطانية غليظة وناعمة، فعندما كنت صغيرا آكل التراب تنبأت جارتنا العجوز بأنني سأكون صالحا من الصالحين، بيد أن كراماتي تأخرت كثيرا، ربما لأنني أفرطتُ في أكل تراب الوطن أيامها. أعادتني لسعات البرد للخيمة. كان الليل يتمدد بشكل عجيب كلعبة الشطرنج، نمتُ بصعوبة وحلمت بأنني أتحدث مع قطة، استيقظت ونمتُ وحلمت بأنني داخل مصنع للحديد الصلب، استيقظت ونمت وحلمتُ بأنني محاط بأناس قاماتهم فارعة، وحدها تلك الأحلام هي التي جعلتني أصدق أنني نمت، استيقظت على أذان الفجر يرفعه أحد الجماعة، صلينا الصبح وشربنا الشاي، مع حلول الثامنة صباحا انطلقنا وركبت في المقدمة جنب السائق وقائد الرحلة ومُعبد هذه الطريق الرابطة بين تيشيت ولعيون. بدأت ملامح الأرض تتغير شيئا فشيئا، الأفق بدأ يتسع والتلال بدأت تتقزم وتتباعد، تكاثرت أشجار السيال(الطلح) وظهرت أشجار المسيح(تيشط)، بعد 70 كلم تقريبا وفي حدود الحادية عشر صباحا وصلنا آبار بُدرگه، كان الرعاة يسقون مواشيهم، أبقار وأغنام وماعز وإبل. أوقدنا النار وأعددنا الشاي وعبأ السائق سيارته بالبنزين وزود عجلاتها بالريح. انطلقنا في حدود الواحدة زوالا، بعد عشرين كيلومتر كانت الأرض مكسوة بشكل كثيف بنباتات الحسكنيت(إنيتي)، وهو منظر يسيل لعاب المنمين الذين يتهددهم الجفاف هذا العام للأسف، فلو وفرت لهم الدولة نقاط مياه في هذه المنطقة ربما ساعدهم ذلك في تجاوز محنة الصيف. بعد حوالي 45 كلم من بُدرگه وصلنا قرية تارة، كانت ستائر الأعرشة مرتخية والرياح تحمل الحصى بين المنازل، صلينا الظهر فيها وبدأت هواتفنا تستعيد الشبكة بعد فقدانها لأكثر من 100 كلم، لما رأيتُ الصخور بدأت أشم رائحة لعيون، مررنا بقرية مكانت وباتت تفصلنا عن لعيون 10 كلم فقط. دخلنا لعيون جهة حي السعادة، صعِدنا طريق الأمل وتنفسنا الصعداء كأننا سفينة كانت تمخر عباب البحر ووصلت للشاطئ، لم تكن الطريق وعرة لخلوها من الحجارة بل كانت مسالمة في أغلبها. ألفينا الشرطي ومحصل الضرائب وقد استبقا نافذة السائق عندما توقف لهما، تبسما كأنهما ظفرا بكنز ثمين في ذلك الوقت البارد، لما أخبرناهم بقدومنا من تيشيت أفسحوا الطريق بسرعة. تجلى برج لعيون الصخري(گليب أزبل) في الأفق القريب، كانت سماء المدينة مضببة بالذكريات، وكنتُ أرى في شوارعها وجوها غير التي تسلكها في ذلك الوقت. كانت الساعة تشير إلى 16:10 مساءً مؤذنة بانتهاء رحلة الشتاء بسلام بعد قطع مسافة قدرها 210 كلم تقريبا بين تيشيت ولعيون.
هنا لعيون(حي العرگوب). لا شيء أشهى من تناول الكسكس مع لبن الماعز والاستماع لموسيقى الطوارق في ليلة باردة. لقد هرمنا كما يبدو، حقا بأن هذه الدنيا ليست إلا متاع الغرور. درجات الحرارة المسجلة الآن في لعيون°12 حسب موقع طقس العرب، والساعة 00:03 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. 

 

خالد الفاظل

شاهد أيضاً

بدأ اجرٱت دمج قطاع أمن الطرق داخل جهاز الشرطة

أصدر المدير العام للأمن الوطني الفريق محمد الشيخ محمد الأمين الملقّب “ابرور” اليوم الثلاثاء مذكرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *