القافلة تتشر ورقة مفصلة عن أزمة موريتانيا والسنغال

القافلة / عرفت العلاقات الموريتانية السنغالية منذ الاستقلال الكثير من التحولات، ولم تخل يوما من الخلافات البينية، رغم الروابط الاجتماعية والدينية بين البلدين، وظلت الخلافات في السابق تقتصر في الغالب على المشاكل بين المنمين الموريتانيين والمزارعين السنغاليين، رغم أن هذا الخلاف لم يأخذ بعدا عدائيا إلا مع نهاية الثمانينات،  

بفعل شجار بين منمين موريتانيين ينتمون لقرية “سونكو” الموريتانية الحدودية، ومزارعين سنغاليين ينتمون لقرية “دياوارا” السنغالية، وقد أدى الشجار حسب بعض المصادر وقتئذ إلى سقوط قتيلين سنغاليين، وقد قدمت كل من الحكومتين الموريتانية والسنغالية روايتين متناقضتين عن أسباب نشوب ذلك الخلاف، وتسارعت الأحداث بوتيرة كبيرة مما كاد يؤدى إلى نشوب حرب حقيقية جراء النزاع الذي اتخذ أبعادا عرقية، وانجرت عنه نتائج كارثية على البلدين والشعبين؛ حيث سقط العديد من القتلى بين الجانبين، إضافة إلى خسائر مادية كبيرة، ناهيك عن مخلفات النزاع الذي تمخض عن ما عرف بمشكل “اللاجئين”، بالإضافة إلى ما يمكن وصفه “بالحرب الباردة” بين البلدين والتي دامت أكثر من عقد من الزمن يغذيها الطرفان من خلال دعم الحكومة السنغالية ل”حركة افلام المحظورة” التي تطالب ب”دولة للزنوج جنوب البلاد”، فيما ردت موريتانيا بدعم حركة التحرر في “إقليم كازاماس” التي تدعو للانفصال. ولم تنته تلك “الحرب الباردة” إلا بعد وصول الرئيس  عبد الله واد للحكم عام  1999، والذي استبشر البعض بقدومه نتيجة الشعارات التي حملها إبان الحملة الرئاسية، لكنه سرعان ما خيب آمال العديد من الموريتانيين عندما بدأ في إذكاء الصراع مجددا بين البلدين، بإثارته لقضية “الأحواض الناضبة” والتي كادت تعصف بعلاقات البلدين من جديد.

العلاقات المتميزة::

منذ الإطاحة بالرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيد أحمد الطايع في 3 من أغسطس 2005، بدأت العلاقات الموريتانية السنغالية في تحسن مشهود، وتعززت هذه العلاقات بفوز الرئيس الموريتاني السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بمنصب رئيس الجمهورية مارس 2007، حيث تعهد بطي ملف اللاجئين الموريتانيين في السنغال، ذلك الملف الذي شكل عقبة أمام تحسن العلاقات بين البلدين، حيث تم توظيفه للضغط على الحكومات الموريتانية المتعاقبة.

وقفزت هذه العلاقات بشكل واضح غداة انقلاب السادس من أغسطس 2008، حيث فاجأ الرئيس عبد الله واد الرأي العام الوطني والدولي بدعمه للانقلاب في موريتانيا، لدرجة أن أوساطا مقربة منه سربت أنباء عن قيامه بحملة دولية لمساندة حكام نواكشوط الجدد، وقد نجح واد يومها في تسويق داكار على أنها العاصمة السياسية الوحيدة التي يمكن أن تجمع أطراف الأزمة في موريتانيا، وقد وفق في مسعاه؛ حيث احتضنت بلاده ما سمي ب”مفاوضات داكار 1 و2″ بين طرفي الأزمة في موريتانيا، وتم الاتفاق على إنهاء الأزمة الدستورية باستقالة الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وتشكيل حكومة وحدة وطنية يعهد إليها بتنظيم انتخابات رئاسية.

جذور  أول أزمة مع نظام ولد عبد العزيز:

لاحظ المراقبون أن الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد عبد العزيز في خطابه الأول بمناسبة تنصيبه، لم يخصص فقرة للثناء على المجهودات التي قام بها واد وهو ما كان له الأثر البالغ في نفسية الأخير، حيث اعتبره واد نكرانا لجميل أسداه إلى الرئيس المنتخب، كما أن التسوية السريعة لملف اللاجئين الموريتانيين في السنغال وطيه نهائيا من قبل ولد عبد العزيز بعد انتخابه لم يرق لواد، حيث أفقده إحدى الأوراق المهمة التي طالما وظفها إبان الانتخابات لكسب ود الأقلية البولارية في السنغال، ناهيك عن فقدانه للاجئين أنفسهم، والذين شكلوا في وقت ما خزانا انتخابيا لحكومات داكار المتعاقبة التي تمن عليهم ببطاقة “لاجئ”.

لكن الأزمة شهدت تحولا كبيرا منذ تراجع داكار عن تنفيذ اتفاقية بينها وبين نواكشوط في مجال النقل البري والتي “تلزم الجانبين بضمان حرية النقل من وإلى البلدين مدة شهر قابلة للتجديد، وبعد نهاية الشهر إذا لم تجدد الاتفاقية يتم العمل بتفريغ الحمولة عند حدود البلدين في انتظار العمل باتفاقية جديدة”، وقد قامت السلطات السنغالية بالامتناع عن تطبيق الشق الأول من الاتفاق ومنعت دخول الشاحنات الموريتانية إلى أراضيها، ما جعل الطرف الموريتاني ينفذ الشق الثاني وهو التفريغ عند الحدود بأوامر من وزير النقل عبر تعميم صدر عنه جاء فيه: “نظرا لعدم احترام السنغال للاتفاقية المبرمة بين البلدين في 15 فبراير 2005 وبعد عدم احترامهم للمحضر التالي الموقع عليه بين موريتانيا والسنغال في 15 مارس 2011، قررت موريتانيا العمل بمضمون ما اتفق عليه بالتفريغ عندالحدود”، معتبرا أن موريتانيا لجأت إلى “مبدأ المعاملة بالمثل”.

وشكلت هذه القضية بداية شرارة أزمة جديدة ، فبعد أقل من أسبوعين على الحادثة تحفظت السنغال على ترشيح الاتحاد الإفريقي لموريتانيا كعضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي، وقد لاحظ المراقبون في قمة مالابو فتور العلاقات بين البلدين، فلا أحاديث جانبية، ولا زيارات مجاملة بين الوفدين، بل على العكس حاول عبد الله واد إفشال المساعي الإفريقية لحل الأزمة الليبية في استهداف واضح لمشاعر الرئيس الموريتاني الذي يرأس لجنة الوساطة، حيث حل ضيفا على بنغازي واعترف بالمجلس الانتقالي “كممثل شرعي ووحيد للشعب الليبي” في خروج تام عن الإجماع الإفريقي، وتجاوز لحدود اللياقة من عضو مؤسس للاتحاد ويسعى إلى تقويض مساعيه.

ولم يقتصر تحرش داكار بنواكشوط عند هذا الحد؛ بل قامت السلطات السنغالية  بالامتناع عن إصدار رخصة الملاحة الجوية للموريتانية للطيران، في العام 2011 وهو ما يعتبر إجراء غير ودي تجاه بلد جار وشقيق، خصوصا إذا علمنا أن الخطوط السنغالية قد استفادت طيلة السنوات الماضية من استغلال المجال الجوي الموريتاني عن طريق الرحلات التي تقوم بها السنغالية للطيران بين نواكشوط ومختلف العواصم الإفريقية.

ويبدو أن السلطات الموريتانية نفد صبرها آن ذاك وردت بالمثل حيث أعادت رحلة للسنغالية للطيران قادمة من داكار، وأعلنت وكالة الطيران المدني في رسالة بعثت بها إلى السلطات السنغالية آن ذاك عن تقليص عدد رحلات السنغالية للطيران من وإلى نواكشوط كإجراء تمهيدي، قبل أن تقرر  (وبشكل نهائي) سحب رخصة استخدام السنغالية للطيران للأجواء الموريتانية، انطلاقا من مبدأ المعاملة بالمثل، وقد عكس هذا الإجراء قمة توتر العلاقة بين البلدين.
وبعيد تسلم الرئيس الحالي ماكي صال مقاليد الحكم في السنغال سار على نفس منوال سلفه واد في التعامل بل كان أكثر استفزازا في بعض الحالات بالرغم من إظهار الدبلوماسية في التعامل مع موريتانيا والزيارات المتبادلة بين كل من قائدا البلدين
وكان أكثر استفزاز اتخذه الرئيس ماكي صال بالنسبة للموريتانيين تدخله في أزمة غامبيا ومحاولته انهائها عسكريا قاطعا الطريق أمام وساطة موريتانيا التي اختارت وجود حل سلمي لأزمة غامبيا
كما أن إواء السنغال لمعارضين موريتانيين من ضمنهم فرقة أولاد لبلاد وبعض عناصر حركة إيرا تصرف اعتبرته سلطات انواكشوط لا يخدم علاقات البلدين

وكان القرار الموريتاني بمرتنة قطاع الصيد وقطع الطريق أمام الصيادين السنغاليين المستفيدين من قطاع الصيد آخر محاور أزمة البلدين الصامتة
وبعد دخول القرار الموريتاني بخصوص الصيد حيز التنفيذ شددت القوات البحرية الرقابة لرصد صيادي السنغال المتسللين إلى المياه الإقليمية الموريتانية وقتلت صياد خلال العام 2017 بعد عدم امتثاله لأوامر حفر السواحل وتكررت الحادثة قبل أيام في رسالة واضحة من خفر السواحل للصيادين السنغاليين لكن الرسالة حملت معها أعمال شغب استهدفت محلات تجارية موريتانية في سيلوي أعادت للأذهان أحداث 89 الأليمة علي الرغم من محاولة كل من الدولتين احتواء الوضع

من المسؤول؟ وكيف ننقذ الموقف...

من المؤكد أنه لا مصلحة للسنغال في اختلاق أزمة قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، فالذاكرة لا تزال تختزن أحداث 1989 الأليمة، ومن هنا يجب على السلطات السنغالية أن تركن للعقل في التعاطي مع حدث كهذا، وخاصة الرئيس ماكي صال 

لاشك أن أزمة 89 جاءت بسبب تعنت  الرئيسس عبدو اضيوف  ووقوف معاوية ولد سيد أحمد الطايع  في وجهه فهل سيير ماكي صال  على نفس المنوال أم أنه بحكم التجربة، يجب أن يعلم أن موريتانيا تعتبر امتدادا وعمقا استراتيجيا للسنغال والعكس صحيح، وأن العلاقات الاجتماعية والدينية بين البلدين عبر العصور يجب أن تتغلب كمصلحة عامة على كل المصالح الضيقة والآنية، وأن الشعوب أصبحت تعي أكثر من أي وقت آخر مصالحها، وتجربة ربيع الثورات العربية  يعلمنا أن الشعوب لا يمكن أن تصادر تطلعاتها، لا من الحاكم ولا من أجندات خارجية تريد الوقيعة بين شعبين شقيقين لمصالح لا تعرف سوى النفعية.

أما السلطات الموريتانية فتدير الأزمة حتى هذه اللحظة بلباقة وتؤثر ضبط النفس على ما يبدو، مع الإعتذار الذي قدمه ولد عبد العزيز للرئيس السنغالي في أديس أبابا بعد حادثة مقتل الصياد السنغالي وهو أمر مقبول ويفتح الفرصة للتريث وتحكيم العقل لتلافي الأسوأ، ونحن اليوم لسنا مستعدين لتكرار نموذج 1989، وما خلفه من دمار على البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكلا البلدين.

محمد غالي ولد اعلانه لموقع القافلة الإخباري

شاهد أيضاً

واشنطن تسمح بمرور مشروع قرار لوقف القتال في غزة

بعد أكثر من 5 أشهر من الحرب في غزة، تمتنع الولايات المتحدة عن التصويت في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *