مخاطر سياسات الإصلاح الهيكلي على الداخل الوطني


تساءل بعض الساسة بعد استبدال العملة الوطنية عما إذا كان الأمر يتعلق بعملية فنية صرفة لا تزيد ولا تنقص من قيمتها بغض النظر عن مبررات تلك الخطوة والأسباب التي دفعت إليها وعن الكلفة الباهظة لعملية الاستبدال وعدم شفافية الظروف التي اكتنفتها ومخاطر التلاعب التي قد تؤدي إليها عملية الاستبدال ذاتها إذا لم تتولاها أياد أمينة؛ أو بعملية تخفيض مقنّعة على درجة عالية من الذكاء وذات مفعول بعدي .
فيما تساءل بعض الاقتصاديين عن الخطوات اللاحقة وذهب إلى أن الأمر لا يتعلق بخفض لسعر العملة وإنما هو تمهيد لخطوات وإجراءات اقتصادية ستظهر لا حقا منها خضوع البلد لشروط وإملاءات مؤسسات النقد الدولي من بوابة سياسات الإصلاح الهيكلي قد تستبع تخفيض سعر العملة فيما بعد.
لكن ومهما يكن من أمر فإن الوقت ما يزال مبكرا في الحكم على ما ستؤول إليه الأمور في هذه المسألة في ظل تعقد الرهانات وتعدد الاحتمالات.
ومن المعروف أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد أعدا خطط الإصلاح الهيكلي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي من أجل هدفين اثنين:
1-هدف إسمي يتمثل في مساعدة الدول النامية في الوصول إلى وضع اقتصادي سليم وحالة من الاستقرار الاقتصادي تسمح لها بالاندماج في وتيرة الاقتصاد العالمي
2- وهدف حقيقي وهو الأهم يتمثل في ضمان استمرارية النظام النقدي العالمي من خلال إيجاد التوازن بينه وبين العملات الوطنية
وكانت الأزمة التي كادت تعصف في مطلع الثمانينيات باقتصادين من أهم اقتصاديات القارة الأمريكية وهما البرازيل والمكسيك قد عرضت آنذاك النظام النقدي العالمي للخطر وأثبتت صحة المساعى التي تقوم بها مؤسسات النقد الدولية من أجل وضع خطط اقتصادية عرفت بخطط الإصلاح الهيكلي الغرض منها مساعدة الدول النامية في الوصول إلى حالة من الاستقرار الاقتصادي تسمح لها بالاندماج بأمان في لعبة المبادلات الاقتصادية والتجارية على مستوى الكوكب.
وفي المقابل لم يكن لدى الكثير من الدول النامية في منصف الثمانينيات أية بدائل أخرى غير الخضوع لشروط البنك الدولي . هكذا وفي منتصف التسعينات من القرن الماضي وجدت حوالي 86 دولة حول العالم (41 دولة في إفريقيا و20 دولة في أمريكا و14 دولة في آسيا و11 دولة في أوروبا ) نفسها وقد وقعت بالفعل في مصيدة سياسات الإصلاح الهيكلي دفعها إلى ذلك الرغبة في الحصول على السيولة الضرورية والقروض ذات الفوائد التفضيلية من البنك الدولي والهيئات المماثلة وقامت على إثر ذلك بتجربة العديد من خطط الإصلاح الهيكلي بمسميات مختلفة ولكن الأهداف ظلت هي هي:إخضاع الاقتصادات النامية وقرارها السياسي لقانون السوق وللقوى العظمى.ذلك هو ما يبدو من مطالعة قائمة شروط البنك الدولي التي تتضمنها خططه للإصلاح الهيكلي والتي نذكر منها على سبيل المثال:
1-خفض سعر العملة الوطنية لجعل الصادرات أكثر قدرة على المنافسة وهي الخطوة التي بدأت بالفعل في موريتانيا بتغيير العملة إذا صدقنا ما يذهب إليه بعض الاقتصاديين.
2- زيادة الصادرات من أجل الحصول على العملة الصعبة لتعويض النفقات وتسديد الديون الخارجية دون مراعاة تقلبات السوق الدولية مما يحمل المزيد من الخسارة للدول السائرة في طريق النمو: وهذا هو ما أشار إليه نائب المدير العام للبنك الدولي ستيقليتز(Stiglitz) الذي انتقد سياسات الهيئة نقدا لاذعا بقوله :عندما تقوم دول الجنوب بزيادة إنتاجها من القطن والقهوة والكاكاو..إلخ فستنهار الأسعار العالمية مما سيؤدي إلى العديد من القلاقل الاجتماعية في أنحاء كثيرة من العالم.
3- إلغاء المعونات المالية التي تقدمها الدولة لبعض القطاعات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والنقل ودعم المواد الأساسية لتقليل النفقات وهي إجراءات تقشفية من شأنها زيادة نسبة الاحتقان في ظل تزايد الفقر وتعدد أسبابه(الفقر الموروث والفقر المكتسب).
4- تسريع الخصخصة (خصخصة الاقتصاد) للحد من تدخل الدولة وإفساح المجال للمبادرات الخاصة التي هي بحسب هذه الفلسفة أكثر فاعلية وانسجاما مع الإجراءات الجديدة.
5- خفض الرواتب وأعداد الموظفين والعمال بالدوائر الحكومية وتحكم أكبر في نفقات الدولة مع ما يترتب على ذلك من قلاقل وتوترات اجتماعية وسياسية ونقابية محتملة.
6- إلغاء الحواجز الجمركية لإفساح المجال للمنافسة الحقيقية وفقا لقوانين السوق سعيا للوصول إلى اقتصاد تنافسي.وهو مالا يستقيم مع وجود الفارق في الجودة بين المنتوج المحلي والمنتوج العالمي وفي ظل غياب المنظومة القانونية وأنظمة الرقابة الصحية الصارمة التي تحدد مواصفات الجودة وهو ما سيؤدي تلقائيا إلى جعل ذلك البند كما هو الشأن في معظم البنود الأخرى في صالح طرف على حساب الطرف الآخر الذي سيتحول من جراء ذلك إلى سوق استهلاكية كبيرة مفتوحة لا تتوفر فيها الحماية الكافية لمنتوجه المحلي ولا للمستهلك الذي سيضطر إلى دفع قيمة إضافية لاقتناء المنتوج المستورد بدعوى فارق الجودة.
7-تصحيح معدلات الفائدة لوضع حد لاستنزاف الشركات والمؤسسات غير المؤهلة للقدرات المالية للمواطن وهو ما سيؤدي حتما إلى انهيار القطاع غير المصنف الذي وإن كان يتعارض مع التشريعات المحلية نفسها قبل غيرها إلا أنه بات يشكل – شئنا ذلك أم أبينا- دعامة من دعائم الاقتصاد الوطني وموردا يعتاش منه الكثير من العوائل والأفراد ويستوعب الكثير من الشباب العاطلين عن العمل في ظل عدم توفير البدائل المناسبة والقانونية .
إلا أن الشرط الأول الذي غالبا ما تبدأ به مؤسسات النقد الدولي هو فرض خصخصة الشركات العمومية المهمة (مثل اسنيم في الحالة الموريتانية)لأن الدولة في عيون تلك المؤسسات إما متغولة على القطاع الخاص ولا تمنحه الفرصة الكافية للمساهمة في التنمية الاقتصادية وإما عاجزة وغير فعالة وبالتالي عليها أن تفسح المجال للمبادرة الفردية باعتبارها “حلا سحريا” للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة. ويتلو ذلك الشرط الأول عادة شرط آخر هو فرض خفض سعر العملة الوطنية بدعوى جذب الاستثمارات وتقليل التضخم.
ولا يختلف اثنان على التأثير السلبي لخطط الإصلاح الهيكلي على استقلال الدول وسيادتها وخصوصا على تماسكها الاجتماعي وهوما أكدته نتائج قمة كوبنهاجن سنة 1995م وأكدته كذلك تقارير صادرة عن منظمات المجتمع المدني الدولية والعديد من الدراسات المتخصصة .ولعل من أبرز الآثار الاجتماعية السلبية للإصلاح الهيكلي: خفض الميزانيات المخصصة لقطاع الصحة وهو ما ينجم عنه تفاقم في الأوضاع الصحية للسكان وانخفاض في أداء المؤسسات الاستشفائية العمومية التي تعاني من العجز أصلا في العديد من الدول من بينها موريتانيا، خفض أعداد الموظفين والعمال مثلما حدث في دول إفريقية مثل غينيا وبنين، وخفض أجور الأطباء مثلما حدث في البيرو والكاميرون، وتأخر الأجور لسنة كاملة مثلما حدث في الكونغو..وخفض سعر العملة الوطنية الذي ينجم عنه مباشرة مضاعفة العجز في القدرة الشرائية للمواطن بسبب زيادة سعر الخدمات الأساسية (الكهرباء،الماء،النقل) لأنها ستصبح تابعة لشركات خصوصية أو خاضعة لنظام الدفع المسبق..إلغاء دعم الدولة للمواد الأساسية وهوما أدى في الكثير من الحالات إلى توترات اجتماعية فضلا عن زيادة الهوة بين الطبقات الاجتماعية وكان من نتائج تلك الإجراءات حدوث اضطرابات وقلاقل في بعض الدول مثل ساحل العاج وليبيريا ونيجيريا والسودان وتونس وفنزويلا وزامبيا والمغرب وغيرها تطلب القضاء عليها أحيانا تدخل الجيش وهو ما يطرح مشكلة أخرى في بعض الدول مثل موريتانيا.
والمشكلة هي أن “الثالوث العولمي” (البنك الدولي و صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية) لا يترك للدول الخيار في قبول أو رفض رزمة الشروط والإجراءات التي يقترحها أو في قبول ما يلائمها منها وترك ما لا يلائمها بل يمارس الضغط المباشر وغير المباشر على قادة الدول النامية التي تمر بظروف اقتصادية واجتماعية صعبة للقبول بها دفعة واحدة أو رفضها دفعة واحدة كالموت يأتي دفعة ولا يقبل التقسيط.
لهذا السبب ظهرت في الغرب الصناعي نفسه في بورتو أليغري وغيرها حركات وأصوات مناهضة للعولمة متمثلة في هذه الإجراءات التي يشرف عليها الثالوث العولمي المدمر لحرية الشعوب وسيادتها وصدرت حتى من بعض المنظمات الدولية مثل اليونسيف التي طالبت بوجه “أكثر إنسانية” لسياسات الإصلاح الهيكلي.
وتبقى الحلول الصحيحة التي تجنبنا على المستوى الوطني الوقوع فيما وقعت فيه الكثير من الدول المغلوبة على أمرها في إفريقيا وآسيا كثيرة ومع أنني لست أفضل من يشخصها ويكشف عنها إلا أنها يمكن أن تختزل في كلمة واحدة : البحث عن السبل الكفيلة بزيادة حجم الثروة الوطنية مع العمل على التوزيع العادل لها.
ويمكن العمل على زيادة حجم الثروة الوطنية من خلال بعض الإجراءات منها:
– استغلال الإمكانيات الهائلة التي تتمتع بها بلادنا في مجال الزراعة الفيضية والموسمية على حد سواء وتحويل الأموال المهدورة في بعض المؤسسات الرسمية المسؤولة عن محاربة الفقر وآثار الاسترقاق والأمن الغذائي وبرامج دعم المواد الغذائية والقدرة الشرائية للشرائح الهشة والتي أصبح وجودها مهددا مع دخول الإجراءات الجديدة حيز التطبيق إلى مجالها الصحيح وهو الاستثمار المباشر في مجالات حيوية عديدة كالزراعة خصوصا زراعة الخضروات والأرز والقمح في المناطق القريبة من العاصمة مثل كرمسين والشامي ومقاطعة الرياض وتوجنين وفي البحيرات والواحات بالداخل وإنشاء طرق زراعية لهذا الغرض والعمل على دعم جودة المنتوج الزراعي المحلي ليكون قادرا على المنافسة وتنمية الثروة الحيوانية ووضع الخطط الكفيلة بالقضاء على تزايدها بطرق بدائية وبالتالي عدم القدرة على التحكم فيها مع محدودية الفائدة الاقتصادية.
– الاستعداد الجيد من النواحي الفنية والاقتصادية لاستغلال عوائد الغاز الطبيعي من خلال خلق البنى التحتية الصناعية.
– تأميم شركات المعادن وخصوصا العاملة منها في مجال الذهب ووضع أسس جديدة منصفة لتقاسم إنتاجها مع الشركات الأجنبية أو على الأقل وقف استنزاف هذه الثروات الوطنية من غير طائل.
– إصلاح النظام الضريبي بحيث يمكّن الدولة من الحصول على عائد أكبر ولا أحد ينكر أننا انتقلنا من مرحلة لم تكن الدولة تحصل فيها على شيء من ذلك إلى مرحلة أصبحت تحصل فيها على حصة كغيرها لكننا لا زلنا بعيدين عن القضاء على بؤر الفساد وأساليبه في هذا القطاع وفي أغلب القطاعات الأخرى.
– القضاء على الفساد الكبير الذي يوجد في أعلى مفاصل الدولة وبتواطئ أحيانا من السلطات العليا للبلد.
هذه الإجراءات وغيرها قد تجعلنا في مأمن من الوقوع في مستنقع الإصلاح الهيكلي ومخاطره الاجتماعية الكثيرة وتمكننا من الحفاظ على القسط الأكبر من سيادتنا كما كنا حتى هذه اللحظة وقد تمكننا إن كان لا بد من الدخول في تلك المغامرة من الحصول على مزاياه إن كانت له مزايا أصلا.
كنا نفهم رفض الخضوع لوصاية الثالوث العولمي أوالمؤسسات النقدية “الاستعمارية” الجديدة مثل رفض الانضمام للمنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ومنطقة الفرنك الغرب إفريقي على أنه رفض للتبعية والخضوع للأجنبي وللاستعمار جديدا كان أو قديما ونزوع إلى الاستقلال والسيادة التي طالما برهن عليهما الرئيس الحالي في مواقف متعددة لسنا هنا بصدد الحديث عنها أما وقد حدث ما حدث وأصبح للسيادة والاستقلال معنى آخر في القاموس السياسي فلم يعد هناك سبب وجيه يقبله العقل لعدم انضمامنا إلى تلك التجمعات الإقليمية بعد ما شاهدناه من سعي حثيث لدول مهمة مثل المغرب وتونس الانضمام إليها رغم البعد فهاهو الاقتصاد والسياسة يجمعاننا بها مجددا بعد أن جمعتنا الجغرافيا والتاريخ ردحا من الزمن. 

د البكاي ولد عبد المالك

شاهد أيضاً

واشنطن تسمح بمرور مشروع قرار لوقف القتال في غزة

بعد أكثر من 5 أشهر من الحرب في غزة، تمتنع الولايات المتحدة عن التصويت في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *