أفضلُ ما في كلمات التأبين ومواسم التذكر وذكرى وفيات الأعيان، أنها تفرض علينا وقفة تأمل مع ذواتِنا خلال إيقاع الحياة السريع، لنسترجع ذكرياتنا مع الحاضر الغائب، فهنا كان يقف، وهنا كان يشرح، وهناك كان ينصح، هنا كان يرشد، هناك كان يَعِظ، وهنا وهنا وهناك وهناك، مما يجعلنا نتساءل قسْرا ترى هل عَمِلنا لأخرانا كما عملنا لدنيانا مثلما فعل هو؟ هل سِرْنا على درْبه ونهْجه؟ هل ترسّمنا خطاه التي كان في كل خطوة منها ـ مهما صغرت ـ يحُثّ السيرَ على خُطى الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ تأسّيًا واقتداءً وامتِثالا؟
ومعــــذرة اليَرَاعة والقوافي * جلالُ الرّزء عن وَصفٍ يـَدِقّ
فالعمر مهما طال، إنما هو عبارة عن لحظاتٍ ضائعة، ما بين أفراح وأتراح، لحظاتٍ تقدّم لنا أغنىَ الدروس وأعظمَ العبر، وخيرُ دليل على ذلك هذه الشخصية العظيمة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، إنه شاب نشأ في طاعة الله سعى طيلة حياته للاستظلال بظله ونيل رضاه:
قد شبّ في طلب العلـوم بهمّة * ترمي المُحالَ بسهمها فتصيبُ
وَ له معًا جُمِـــع الذكاء وفطنةٌ * منها البعيدُ من الفــنون قريبُ
لله دَرّك يا فتىً كسِب العُــــــلا * للمصطفــــين من الأنام نسيبُ
فالفقيه العلامة المرحوم الشيخ / محمد عبد الله ولد المصطف ، كان معجزة ربانية، ظاهرة فريدة، شخصية نادرة، كتبَ لنفسه صفحة خالدة في التاريخ عنوانُها الورَع وسطورُها الإيمان والإحسان، وكلماتها الصّدق والأمانة، الشرف والإخلاص، اللطف والبشاشة، الحِلم والشهامة، المروءة والكرم، صفحة ناصِعة مُشرّفة استحقت بجدارة توقيعَه كوريث للأنبياء:
تجري المقادِرُ والخطوبُ تنوبُ * والعُمر يُحصَر والحـياة كـَذوبُ
في حادثٍ فـُقــِدَ الفقِــــيهُ وأهلُه * كادت تذوب لدى السّماع قلوبُ
وبالرغم من حزننا الشديد على فقده في هذا العمر المبكر والحياة القصيرة، إلا أن عزاءَنا أنها كانت بحمد الله مثمرة، فإنتاجه العلميّ ضخم موزع بين المسموع والمرئيّ والمقروء، وكنا نطمح لإخراج أول كتاب من مؤلفاته الثمينة تزامنا مع ذكرى وفاته الأولى ـ هذه ـ إلا أن ظروفا قاهرة حالت دون ذلك، ونرجو أن نوَفق لإخراجها في حُـلة باهرة تليق بمقام مؤلفها ـ عظيم الشأن ـ في أقرب فرصة ممكنة بإذن الله، عسانا ننتفع ببعض تلك الثمار الطيبة اليانعة :
يا ضابطا طرْقَ التلاوة في الصّـبا * فلأنت شيـــــــــــخٌ في صِباكَ مَهيبُ
يا شيخَ فـِـقهٍ قد علِمْتَ أصـُـــولـَه * وفروعَه والكلّ فـــِــــــــــــيهِ تـُجيبُ
يا فارسَ السّـِيـَر الخبير بما جرَى * فيها كأنك لسْــــــــــــــتَ عنه تـَغِيبُ
لم ننس شيخنا الفاضل وفقيهنا الفذ ومرشدنا الديني ومعلمنا الروحي، فالحزن لا يزال مُخيّما على الأرواح، والشوق لا يزال مُقِيما في القلوب، والشجن لا يزال آخذا بمجامع الأنفس، والدمع لا يزال رفيقنا الوفي، و…. :
وتوقفتْ فتوًى تـُــنـِــــــــــيرُ بَريدَه * ويكاد يُسمَع للـــــــــــــبريد نـَحيبُ
وخلت منابرُ قد عَهـِـــــــدْن خطابَه * والبثّ يُقطــَعُ والأثــــــــــير كـَئِيبُ
واستوْحَشت منه المسامعُ واعترَى * سيلَ الشروح على المُتون نضوُبُ
ولسانُ حال السائلــــــــــين مُسائلٌ * هل للسؤال من الصّعَاب مُجــِـــــيبُ؟
هل للإذاعةِ والبــــــــرامِج مُنصتٌ؟ * ومحمــــــــــدٌ عبدُ الإله يَغــِـــــــيبُ؟
طبعَ الثـــــــــناءُ على الإله خِطابَه * فلسانــُه يَحـْـلـُو له ويَــــــطِــــــــيبُ
ماذا تكون إذا تعــــــــــيش معمّرا؟ * والموتُ أسرَعُ بالخـِــــــــــيار قريبُ؟
و….”العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الله، وإنا لفراقك يا شيخنا لمحزونون”:
يا ربّ صـــــلّ على الحبيب محمدٍ ** واجْعلْ ثرَى عــــــــــــبدَ الإله يَطيبُ
وافـْســِحْ له في قـــبْره وتـقـَبـّلـَـنْ ** منه فإنك للدّعـــَــــــــــــــــاء مُجيبُ
آمين هو وزوجَه الوفيّة ونجلـَه البريء، “وإنا لله وإنا إليه راجعون”.
باسم مُحِبيّ الفقيد العلامة وأهله وتلامذته وأصدقائه وخِلانه
تلميذتـُه المعتزةُ به دائما الفخورةُ به أبدا