في جذور الغش (٣) / إسلكو ولد إزيد بيه

بعد الحصة الدراسية الصباحية الأولى (٨-.١)، دأبنا، كطاقم تدريسي في “قسم الرياضيات والمعلوماتية” في “المعهد العلمي العالي”، على التواجد في غرفة “القسم” التي كانت تسعنا بالكاد. ونظرا لثقافتي البدوية الأولى التي تعتبر الأكل بشكل العام -والأكل في الملأ بشكل خاص- نشاطا “غير مشرف”، لم أرتح يوما لمشهد عبوات ألبان “الوردة” (روز) وقطع الخبز بالزبدة (امبورو وبير) وكؤوس الشاي الأخضر… التي كانت تزاحمنا مجتمعة على كمية الأكسجين المحدودة داخل غرفة القسم، إلا أن أجواء الزمالة والدعابة -ولو لمدة قصيرة- كانت ثمينة نفسيا ومعنويا ومهنيا إلى حد يصعب التغيب عنها طواعية.
في هذه الظروف، وفي أحد أيام السنة الدراسية ١٩٩٣-١٩٩٤، دخل علينا عميد “كلية العلوم القانونية والاقتصادية” وأخبرنا بأن أحد أساتذة كليته لمادة “الاحتمالات والإحصائيات” تعذر عليه مواصلة تدريس السنة الثانية-اقتصاد، وأنه جاء بحثا عن أستاذ للتدريس مكانه. اعتذر كل الزملاء لأسباب منها العبء التدريسي الثقيل في “المعهد العلمي العالي” والعدد الكبير للطلاب داخل أقسام “كلية العلوم القانونية والاقتصادية” الشيء الذي يفرض وقتا طويلا نسبيا لتصحيح أوراق الامتحانات. قبل مغادرة العميد للغرفة، خاطبه أحد الزملاء المعروف بمزاحه القاطع، فقال له : “لم لا تحاول مع فلان؟” (انت ما اتشوف امع فلان؟)، وكان يعنيني ؛ كنت جالسا في زاوية تضمن لي متابعة المشهد عن كثب وغير منقوص… نظر إلي العميد غير مقتنع (لم أكن أعرفه) ؛ لتلافي الموقف، تدخل أحد الزملاء وشرح للعميد :”فلان أستاذ جديد في القسم، قادم من الدولة x”. لم يكن بخطر على بال أحد أن بوسعي تدريس الرياضيات باللغة العربية. خاطبت العميد وأخبرته باستعدادي لتدريس المادة المذكورة، ورهاني عبارة عن ثنائية بسيطة: إما أن أفشل في المهمة وسيكون الأمر عاديا لأنني أخفقت في ما اعتذر عنه زملائي دون استثناء، وإما أن أنجح في المهمة فأكون قد نجحت في تحد تربوي لم يجرؤ على مجابهته أي زميل لي… ضحكنا من الرهان البسيط، واتفقت مع العميد على أول درس في كليته. كانت تجربة مفيدة بالنسبة لي، إلا أنني وضعت لها حدا نظرا لما يلي.
بعد فترة، وبينما أنا خارج من “القسم”، اعترضني شخص يعمل في إدارة معهدنا ومقرب عائليا من أحد “النافذين”في تلك الفترة ؛ ورغم ضيق وقتي، بدأ يجذبني جانبا وبعد أن أصبحنا بمنأى عن الجميع، شرح لي أن “لديهم بنية” (عندنا اطفيله) تدرس الاحتمالات في السنة الثانية في “كلية العلوم القانونية والاقتصادية”، وبما أنني كنت أدرسها فطلبه تلخص في أن أعطيها علامة جيدة في هذه المادة، لأنها لم تجد الوقت للمراجعة لأسباب غامضة. كنت وقتها معارضا صريحا للنظام القائم، ولم أفهم مبرر جراءة الموظف الإداري علي، فآثرت أن “أعرض عنه”، إلا أنه ولسبب لا أعرفه، واصل التغطية على “صمتي” بحديث لم يرق لي، فاعتذرت له بضيق الوقت، وانصرفت.
ظننت أن الأمر قد انتهى، إلا أنه في الصباح الموالي وفي نفس التوقيت تقريبا، حضر الموظف المذكور وطلب مني مرافقته جانبا وسلمني ظرفا كتب عليه من الخارج
‏ “Ne pas oublier” أي “عدم النسيان” وبداخله ورقة بيضاء يظهر عليها ما قال إنه الرقم السري للطالبة المعنية. استلمت الظرف، وتوجهت إليه قائلا بالحسانية: “هل تعلم أنني معارض؟”، قال :”نعم”. وأردفت: “هل تعرف لماذا أعارض هذا النظام؟”. قال: “لا”. قلت له : “بسبب هذا النوع من التصرف المشين والجائر”. وبعد توبيخه على تصرفه وخطإه إذا كان يعول على قريب، قلت له بالحرف الواحد : “إذا كنت تتصرف مع الآخرين بهذه الطريقة، فاعتبر من الآن فصاعدا أنني استثناء”، ثم أضفت: “هذا الظرف دليل ضدك، وبوسعي أن أقصد “صحيفة القلم” (لا أعرف لماذا اخترت هذا المرفق الإعلامي بالذات ؛ ربما لثقتي في مهنية مديره وقتها، المرحوم “حبيب ولد محفوظ”) وأقص عليه بالتفصيل ما حدث بيننا وسوف لن يكون بوسع أي قريب أو بعيد أن يشفع لك”. عندها فهم الموقف، وطلب مني إعادة الظرف، فقلت له: “إن اقتربت مني فسيعلم كل رواد هذا المرفق تفاصيل ما حدث بيننا” ؛ فغادرني بغتة دون أي شكل من أشكال التوديع…
اتصلت نفس اليوم بإدارة “كلية العلوم القانونية والاقتصادية”، وأخبرتها بما حدث وطلبت منها مساعدتي في معرفة صاحب الرقم السري المسرب. فطُلب مني أن أُفصح عن إسم من أعطاني الرقم لكي يتسنى للإدارة تخمين مصدر التسريب داخل “لجنة التوهيم” ؛ رفضت الطلب المذكور لأن هدفي لم يكن إلحاق الضرر بالموظف المغرور… بعد أحذ ورد طويلين، تم إشعاري بتطابق الرقم السري المسرب مع رقم الطالبة المعنية وتمت طمأنتي بخصوص الإجراءات التي قيم بها لمواجهة هذا الإشكال.
نظرا لمشاغلي المعقدة في تلك الفترة، لم أتجاوز هذا الحد في متابعة هذا الحادث، خاصة بعد أن فهمت أنه -مع الأسف- بعيد من أن يكون معزولا ، حيث كانت مساكن بعض الأستاذة تتحول في فترات الامتحانات إلى “مزارات” للباحثين عن علامات عالية غير مستحقة… لقد قررت على إثر هذا الحادث ولاعتبارات أخرى لا يتسع المقام لذكرها، وضع حد لتعاوني مع الكلية.

(يتواصل إن شاء الله)

شاهد أيضاً

فعاليات وصول رئيس الجمهورية غزواني إلى كينيا

فعاليات وصول رئيس الجمهورية غزواني إلى كينيا