أولاد امبارك: إرث ثقافي يتجاوز السيوف والسرج

حين يُذكر اسم إمارة أولاد امبارك، يتبادر إلى الذهن تاريخ حافل بالصراعات والملاحم العسكرية، وذكريات أمراء نقشوا أسماءهم في صفحات القوة والشجاعة. لكن القيمة الحقيقية لهذه الإمارة لا تقتصر على ميادين القتال ولا على معارك النفوذ والسلطة، بل تمتد إلى عمق أعمق وأبقى: إرثها الثقافي العريق، الذي شكل لبنة أساسية في الهوية الموريتانية.

ففي مجال الشعر، لا يمكن لأي باحث في الأدب الموريتاني أن يتجاوز مصطلح “الملحمة” دون أن يجد نفسه واقفًا إجلالًا أمام “اتـَّهيدين”، ذاك الجنس الأدبي الفريد، الذي عرف ميلاده الحقيقي في مضارب هذه الإمارة، فصار يُردد على ألسنة الرواة ويُتوارث جيلاً بعد جيل، معبرًا عن روح جماعية ملحمية، تمزج بين البطولات الفردية والذاكرة الجمعية.

أما في الموسيقى، فتُعدّ أولاد امبارك منبتًا خصبًا للمقامات والأشوار التي لا تزال حتى اليوم تشكل الهيكل العظمي للموسيقى الموريتانية. فهذه الألحان لم تكن مجرد أنغام عابرة، بل كانت تجسيدًا يوميًا ليوميات الأمراء، ورسائل موسيقية تعبر عن الشجاعة والكرم والفروسية. بل إن العازفين ذهبوا أبعد من ذلك، حين استلهموا من ضبح الخيل، وقدح حوافرها، وخطى الفرسان، وصوت الأحزمة وهي تعانق السيقان، مقاطع موسيقية خالدة، اختزلت الزمن وحملت الذاكرة الحية للمروءة والنبل.

ومن مفاخر هذا الإرث، طبل “الرزام”، الذي إن نطق اليوم لقال: “أنا بقية من سلف صالح ومجد أصيل، وقصة شموخ قديمة. كنت رفيق المغامير من أولاد امبارك، أرتحل معهم بين فجاج العز وساحات الشرف. ولئن شابت ناصيتي، وأصبحت اليوم تحفة يتأملها عشاق التراث ورواد الثقافة، فقد كنت يومًا عالي الجناب، مهيب المقام. ولكنها الأيام، كما قيل، دول.”

إن الحديث عن أولاد امبارك لا يكتمل في ساحات القتال وحدها، بل يزدهر ويُخلّد في الأغنية، والقصيدة، والحكاية. ومن هنا، فإن من أراد أن يفهم العمق الثقافي لمجتمع البيظان، فليبدأ من حيث وُلدت الأنغام، وتُليت الملاحم، وعزف التاريخ على أوتار المجد.

محمد غالي اعلان ولد سيدي عثمان

شاهد أيضاً

شخصيات فارسية

بعد دخول الفرس في الإسلام في القرن السابع الميلادي، برز منهم عدد كبير من العلماء …