
يطلب أهل الصحراء رجال الغيث فى الشدائد فيعطونهم ثقتهم ويؤمنونهم على مستقبلهم ويشترطون عليهم تلبية مطالبهم فى حياة كريمة بلا معاناة ، أي أن رجال الغيث بالمصطلح العلمي هم القادة وقد انجبت هذه الأرض عبر تاريخها قادة كبار ربما كانت فكرة أحدهم بذرة أمل لأمة بكاملها لعقود أوحتى لقرون من الزمن
وحتى لانتحول إلى تدارس التاريخ يكفينا ذكر رجل غيث ومؤسس الدولة الموريتانية المختار ولد داداه رحمه الله ، فقد كان أول من حمل فى الخمسينات من القرن الماضي شعار “فالنبني معا الوطن الموريتاني”.
وعمل فى الستينات والسبعينات على تطبيق هذا الشعار مع الآباء المؤسسين للدولة الموريتانية على الصعيدين الخارجي والداخلي رغم الصعوبات الإستعمارية والرجعية والمناخية ، فكانت رؤيته الإستراتيجية والتي انطلقت من الحالة العدمية إلى تحقيق الأهداف المشروعة فى تأسيس دولة عصرية لهذا الشعب ومايترتب عليها من حياة كريمة فى القرن العشرين
فكان طريق النضال والبناء الصعب من أجل الإستقلال .
لقد تم تشييد مدن ببيوتها وأمنها وطرقها وموانئها ومطاراتها وشبكة مياهها وصرف صحي لها وكهربائها ومستشفياتها ومدارسها ومنشئاتها الرياضية .
كل هذا البناء فى غفار الصحراء ولم يكن توسعة أوترميما وكان بالتوازي مع إنشاء نظام سياسي حديث يتضاد مع الجهوية والقبيلية ومايتطلبه من ديناميكية التحولات حدث هذا بدفع إقتصادي وطني وليد إستطاع بعد العقد الأول من الإستقلال من تأميم شركات المعادن والصيد والمالية وتم ذلك في ظل منظومة عسكرية وأمنية وطنية حديثة تم إشراكها في عملية التنمية الإقتصادية بصفة مباشرة وبقرار من حزب الشعب في مؤتمره فى مدينة تجكجة سنة 1970 ليتولى بعد ذلك ضباط مسؤوليات فى مختلف القطاعات الحكومية وكان من ضمنها شركات حكومية ذات طابع تجاري وكان معيار الكفاءة معتمدا فى إختيارهم .
وعلى ذكر مؤتمرات حزب الشعب فإن مؤتمره الطارئ سنة 1971 الذي حددفيه ثلاثة أهداف إستراتيجية كانت هي مطالب الشبيبة الموريتانية المناضلة وهي الإستقلال الثقافي والإستقلال الإقتصادي والديموقراطية .
وخلال ثلاثة سنوات عملت حكومة المختار على تحقيق تلك الأهداف ففي سنة 1972 تم إلغاء إتفاقية 1961 مع الفرنسيين من الجانب الموريتاني والتي كانت تحكم العلاقات بين البلدين وذلك لطابعها الإستعماري .
كما تم إعتماد سياسة تعليم تنطلق من واقع ضرورة الإزدواجية فى التعليم من أجل أن تأخذ اللغة العربية فى النهاية مكانتها وتنهض باللغات الوطنية والتى اعتمدت الأبجدية العربية لكتابتها هذا كان من أجل تشكيل شخصية ثقافية وطنية مستقلة
أما مطالب الإستقلال الإقتصادي فقد اقتضت وضع سياسة تنموية شاملة ففي القطاع المالي خرجت بلادنا من منطقة الفرنك الإفريقي وتم سك عملة وطنية وماتطلبته من إنشاء نظام مصرفي وطني وكان على رأس هذا النظام المصرفي البنك المركزي وتبعته مصارف متخصصة مثل البنك العربي الإفريقي والبنك الموريتاني للتنمية والتجارة والمصرف العربي الليبي الموريتاني للتجارة الخارجية والتنمية إمتلكت الدولة غالبية الأسهم فى هذه البنوك كما تم إنشاء الشركة الموريتانية للتأمين وإعادة التأمين .
وقد تم دعم القطاع المالي بقرارات تاريخية فتم سنة 1973 تأميم شركة الحديد ميفرما وخلفتها الشركة الوطنية للصناعة والمعادن اسنيم وتم تأميم شركة النحاس صوميما سنة 1975 والتى لم تكن الحكومة الموريتانية تمتلك سوى%22 من أسهمها .
ومابين هذين التأميمين لم تقف الحكومة متفرجة بل قامت سنة 1974 بإستغلال منجم الجبس فى نواكشوط من طرف شركة وطنية تم إنشاؤها لهذا الغرض كما تم الإنتهاء من دراسة مشروع مصفاة البترول والبدء فى إنشائها والتي تم تشغيلها سنة 1977 فى مدينة نواذيبو .
ولم يكن قطاع الصيد بمنأى عن التحولات الجذرية فى البلاد ففي سنة 1972 تم رسم سياسة وطنية للصيد البحري فتم تحديث المنشئات وتكثيف الرقابة ضد القراصنة.
وانشئت شركات مختلطة مع بعض الدول الشقيقة والصديقة فى مجال الصيد ليكون قطاع الصيد مع تصدير الحديد من أهم دعائم الإقتصاد الوطني من حيث التشغيل وعائدات العملة الصعبة .
ودعما لعملية الإستقلال الإقتصادي تم التوقيع مع جمهورية الصين الشعبية على إنشاء ميناء فى المياه العميقة ميناء الصداقة وإتفاقية تعاون فى القطاع الزراعي بإنشاء مزرعة امبوري وعلى ذكر قطاع الزراعة تم إستصلاح منطقة الضفة فى غورغول حيث بدأ إستغلال أربعة آلاف هكتاروكانت هذه الخطة الأولى فى عملية الإكتفاء الزراعي والتى كانت ستكتمل بعد الإنتهاء من بناء سدي ادياما وماننتالي بالتعاون مع السنغال ومالي فى إطار منظمة إستثمار نهر السنغال التى أنشئت فى مارس 1972.
هذا ليس سردا لإنجازات المؤسس المختار وإلا لتحدثت عنها بإسهاب وأضفت إليها المشاريع الكبرى من مستشفيات فى العاصمة وجميع عواصم الولايات وطريق الأمل وطريق نواكشوط روصو وطريق أطار نواكشوط وشركة سوكوجيم والشركة الوطنية للبتروكيماويت ودراسة جدوائية مشروع آفطوط الساحلي ومدارس تكوين المعلمين والأساتذة ومشاريع التعليم الأساسي والثانوي والعالي والمعهد الوطني للتعليم والدراسات السياسية وكانت مهمته تكوين جميع الأطر السياسيين من خلال ورشات ومؤتمرات وندوات.
بل إن الحديث كان عن إصلاحات طالب بها الشباب الموريتاني المناضل وتم تطبيقها مابعد سنة 1971 وقبل سنة 1975 أي فتترة ثلاثة سنوات لقد كانت معجزة عندما تناغمت الإرادة السياسية مع تطلعات وآمال الشباب الموريتاني المناضل لكن إذاعرف السبب بطل العجب فشعار المرحوم المختار ولد داداه كان” موريتانيا لن تكون إلا كمايريدها شبابها ” هذا لم يكن شعارا إستهلاكيا بل كانت سياسة واضحة استمعت إلى المطالب أولا وطبقت التوجهات العامة ثانيا لتتحول هذه القوى الشبابية المعارضة إلى قوة خلاقة بدأ هذا فى مهرجان الشباب سنة 1974 وتم تتويجه فى الإندماج فى حزب الشعب سنة 1975، حيث أكد الرئيس المختار فى المؤتمر” أنه لن يخيب آمال الشباب والذي يجب إشراكه بصفة فعالة وكاملة من غير تحفظ أوتردد فى عملية البناء الوطني من أجل موريتانيا موحدة ومزدهرة وسعيدة”.
هذه كانت إستراتيجية وأهداف المؤسس غير أنها تغلبت عليها قوة وإرادة الطبيعة المتجسدة فى موجة الجفاف التى إجتاحت البلاد فقد فشلت جميع السياسات والبرامج فى التغلب عليها فلا إنشاء شركة صونادير ولابرامج التدخل السريع والتى بدأت ببرنامج التدخل السريع بملياري أوقية أي مايعادل أربعين مليون دولار وقوتها الشرائية آنذاك .
وبترجمة ظاهرة الجفاف إقتصاديا فإنها إنهيار الإقتصاد الريفي الذي يستوعب %80 من المواطنين والمنحصر فى قطاعين هما التنمية والزراعة القروية.
هذا هوسبب دخول البلاد فى النفق المظلم وليست حرب الصحراء التى فرضتها على بلادنا دولة مجاورة وتحالفنا مع دولتين إحدى هذه الدول دعمتنا بقوات جوية وبرية والثانية دعمتنا بقوات جوية وكانت موازين القوى لصالحنا .
إن قوة الطبيعة هي التي زعزعت ثقة بعض المواطنين فى قائد مثل المختار صاحب الإنجازات ودفعت البعض لإجتهادات دمرت تجربة ثمان عشرةسنة أوشكت البلاد فيها على ميلاد نظام ديموقراطي كماحدث فى الجارة السنغال .