حوار في الأفق… يظلنا، يسعنا و يؤاخينا / د الزين ولد سيدي ولد بناهي

يترقب الموريتانيون بقلوب متعطشة واذهان يقظة ما قد يسفر عنه الحوار السياسي الجاري التحضير له بين مختلف الفرقاء السياسين. ويتطلع الوطن بأسره يحدوه امل متجذر يجد تبريره في ان ديمقراطيتنا قاربت نصف قرن من الخبرة والتشكل وآن لها ان تجسد بثقة وحصانة مزايا وسجايا النضج. فلا مراء ولا جدال في ان فضائنا الإقليمي المتأزم وكذا الظرفية الجيوسياسية الدولية التي تؤرقها استفهامات اللايقين سياسيا واقتصاديا جعلت العالم من حولنا يتأرجح بين الاحادية القطبية الغربية الشمالية ومساعي الجنوب عبر البريكس لتأمين التوازن عبر التعددية القطبية وحفظ قيم القانون والعلاقات الدولية في المنظومة العالمية من التصدع والانهيار. كل هذه العوامل مجتمعة تضع طبقتنا السياسية والنخب الوطنية امام مسؤوليات تاريخية تفرض الحرص الدؤوب وإعمال الحكمة والعقلانية بغية بلوغ اعلى المكاسب.

إعلان الحوار وحسن التوقيت

يجمع خبراء السياسة واهل الاختصاص في علوم الاتصال والاعلام على ان النجاح والتوفيق في اي إعلان او قرار سياسي وازن ومؤثر يرتبط ارتباطاً وثيقا بحسن اختيار التوقيت. وبناءا على ذلك فقد وفق رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في اختيار شهر رمضان المبارك للإعلان عن إطلاق حوار شامل لا يقصى احدا ولا يحيد موضوعا وبهذا نحرص على استلهام التزكية والتوفيق من روح هذا الشهر العظيم ونفحاته الطيبة والحق أقول، فقد اعتاد ساستنا كلهم على تعظيم هذا الشهر باعتماد سكينة وهدوء سياسي ينأى عن المجادلة الحادة في هذا الشهر الكريم، ويجب التذكير ان هذا الحوار جاء تنفيذا للبرنامج الذي تقدم الرئيس في الانتخابات الرئاسية الماضية.

منسق الحوار… عميد الأجيال وأكاديمية السنين

لقد تم اختيار العميد والسياسي المخضرم السيد موسى فال لإدارة هذا الحوار وتنسيقه وهو الخبير بكواليس السياسة وفك رموزها فقد أدرك أواخر حكم الرعيل الاول جيل التأسيس ورواده صحبة أب الامة المختار ولد داداه. واحسب ان من أدرك ولو حولا واحدا من حقبة التأسيس فقد حظي بذخر اخلاقي ورصيد إنساني ومعرفة سياسية قمين بنا جميعا ان نصغي إليه ونعينه على نسج اجماع سياسي يرتقي بأداء ساستنا نحو فضاء سياسي مشترك ومحكم للذود عن المكاسب الوطنية وتحصين مجتمعنا من الهزات وتجذير البعد المؤسساتي في ديمقراطيتنا. ولا شك عندي في ان دراية الرجل بمعادن الرجال المتخذين من السياسة مهنة احترافية وصنعة لها أسسها وطرائقها ومراس السنين الذي اختزنه في كنانة عقله سوف يشكل له اداة قوية وطيعة تؤتي ثمارها في تقريب الفجوات وتجسيرها للرسو بآليات الحوار ومضامينه تلقاء أرضيات مشتركة راسخة وقارة. فقد باشر المنسق موسى فال في مستهل مهمته الجليلة عقد لقاءات مع الفاعلين السياسيين المخضرمين وكذا مع القوى الصاعدة والواعدة من الجيل الجديد من الساسة للتوافق حول آليات الحوار وسبل تنظيمه، فبادر كل حزب يساهم بمقترحات عملية تهدف إلى إثراء المشهد السياسي في هذا الحوار السامي في غاياته.

توسعة الحوار كما ونوعا

ان اتساع أرضية الحوار لتشمل الى جانب الأحزاب المرخص لها تلك غير المرخصة والمجتمع المدني والمدونين وكبريات الهيئات والنقابات وفي مقدمتها هيئة ائمة وعلماء موريتانيا ونقابات العمال والشغيلة واتحاد ارباب العمل والنقابات النسائية والمحامين والصحفيين من شأنه ان يثري الحوار فالمواطن العادي تتملكه الريبة والتوجس في حصر الحوار في السياسيين لعلمه بمناورات الساسة وميلهم أحيانا نحو السياسة السياسوية كما يقول الفرنسيون.

فرقاء الحوار … نحو تشييد معمار سياسي قار ومستديم
يدرك ساستنا جميعا ان السياق الجيوسياسي اقليميا ودوليا يرزح تحت اسئلة اللايقين وعدم تبيان رؤى واضحة بعد ان ولج إلى البيت الأبيض ترامب الذي يبدو اشبه ما يكون بفرعون الكون او ان شئت قارون العقارات والدولارات فقد خلط الأوراق حتى على نفسه وها هو يفتحها حربا تجارية محمومة برسومها الجمركية الحارقة التي تساوى فيها الحلفاء والأعداء.
كما ان منطقتنا في الساحل تزاحمت عليها التحديات من ضيق الأفق الاقتصادي إلى الارهاب العابر للقارات إلى حمى الانقلابات المتعاقبة وما نجم عنها من نشاط هائل لشبكات الهجرة غير النظامية وغياب الاستقرار السياسي كلها عوامل تضع ساستنا أمام تحديات بنيوية تحتم عليهم الإحساس بوزن التاريخ وثقل المسؤولية سعيا لتصفير المشاكل وتعظيم الفرص وتأمين انسيابية عمل مؤسسات الدولة فكما قال اوباما ذات مرة إن أفريقيا لا تحتاج إلى رجال أقوياء بقدر ما تحتاج إلى مؤسسات قوية. إن مؤسسات قوية تحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم وتؤمن لهم حياة كريمة يستشعر فيها المواطن انه مرتكز التنمية وغايتها ومتصالح مع ذاته ووطنه لا كالغريب فيه، فالغربة لا تكون وطنا إلا حين يصبح الوطن غربة.

الظل والحوار

لقد أشرت في عنوان هذا المقال إلى الظل لاستحضار المعاني الحسنة لهذا اللفظ في لغة الضاد فالظل يحيل إلى مدلولات السكينة والراحة والطمأنينة علها تضفي ابعادا إنسانية وروحية للنقاش السياسي. فقد نزل في القرآن الكريم (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) فالمأمول ان يكون هذا الحوار ظلا ظليلا لساستنا خلال كافة مراحل هذا الحوار حتى يؤتي ثماره السياسية ناضجة.

السعة والحوار

ان للسعة معاني عديدة و من أعظمها ما ورد في القرآن الكريم قال الله سبحانه و تعالى (وسعت رحمتي كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) والسعة في بعدها البشرى نقصد بها سعة الصدر ورحابته و الحلم و التسامح اي أننا نعني بمفهوم السعة هنا البعد القيمي والأخلاقي الموصول بالمنزلة الإنسانية على نحو ما قال الشاعر عمرو ابن الأهتم لعمرك ما ضاقت ارض بأهلها ولكن صدور الرجال تضيق … فما يرجوه المواطن من الله في هذا الحوار المقبل ان تتسع صدور الساسة لتدافع الآراء و تزاحمها على نحو مثمر بحيث تنبثق عن هذه المداولات مشتركات وطنية خدمة للمصالح والمثل العليا للبلد.

الإخاء والحوار

كثيرا ما نستلهم، في إفريقيا والشرق عموما، قيما إنسانية واخلاقية وسياسية من السياقات الغربية وهو أمر عجاب اذ أن تراثنا الإفريقي العربي والإسلامي عامر بأعظم النماذج الانسانية الجديرة بالاقتداء. ففي افريقيا ووطننا بالتحديد تقاليد مؤسساتية وإنسانية لا تكاد تذكر على حسنها ووجاهتها كشجرة الحديث والتشاور l’arbre à palabre فمنذ الأزل اعتاد المزارعون والمنمون على الجلوس تحت ظل الشجرة للحديث والتشاور حول مشاكل وفرص التعايش المشترك إذ يشتكي المزارعون للرعاة ان قطيعهم يضر بحصادهم ويلتمس الرعاة الأعذار لأنفسهم ويبحثون عن الحلول لتفادي الأضرار. وهو ما نجده لاحقا عند الإغريق عبر الساحة العمومية el agora بحيث تنشر كل الإعلانات الهامة وتعقد الجلسات والندوات والمنتديات الفكرية بل والفلسفية.
إن الإخاء الذي اشرت إليه في العنوان ليستلهم من قدوة الانسانية محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسى أسس الإخاء بين في المدينة وبذلك كانت أعظم مدينة فاضلة حقا وواقعا حيا رصدته وقيدته سجلات التاريخ، فالأولى بساستنا وهم يقبلون على هذا الحوار أن ينهلوا من هذا العطاء النبوي في مجمل أبعاده الإنسانية والسياسية والأخلاقية. فنحن والحمد لله تربطنا مختلف أواصر الأخوة من رحم ودين وأرض ووطن كما أن الإخاء يتوسط شعار جمهوريتنا بين الشرف والعدل. فيجب ان تشكل عروة الاخوة دليلنا لتجاوز الخلافات والتوافق على المكاسب المشتركة لكل المواطنين موالاة و معارضة بل وحتى لتشمل مواطنين خارج التاريخ الرسمي.

لقد اعتمد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، منذ وصوله لسدة الحكم، على إضفاء طبع اخلاقي وطابع تشاركي على المشهد الساسي الوطني حيث سادت فيه السكينة والهدوء وتحرر فيه العمل السياسي من وصمة التخوين وأساليب التسفيه المتبادل. كما واكبت المعارضة هذه التهدئة دون أن تعطل دورها في ممارسة ضروب النقد والمساءلة السياسية. هذا الجو العام هو دليل ساطع على تملك طبقتنا السياسية القناعة المشتركة بأن الحوار هو أعظم خيار سياسي واستراتيجي ووجهة سياسية متحضرة لتسوية الأمور ولا يتعارض مع الديمقراطية بل هو وسيلة من وسائلها الفعالة لتجسيد معيار الوطنية الدستورية كما نظر له المفكر الألماني يورغن هابرماس.

فليكن هذا الحوار الوطني لحظة ميلاد جديدة لعقد اجتماعي وسياسي جامع، يظلنا، يسعنا، ويؤاخينا.

شاهد أيضاً

سيد أحمد ولد محمد معلقا على تعيينه وزيرا

عبّر وزير التنمية الحيوانية، السيد سيد أحمد محمد، عن شكره وامتنانه لفخامة رئيس الجمهورية، السيد …