سينلوي (إنْدَر) في ذاكرة الموريتانيين

لم تكن مدينة سينلوي، أو كما يسميها الموريتانيون قديمًا إنْدَر، مجرد نقطةٍ على ضفة نهر السنغال، بل كانت بوابة التاريخ الحديث لموريتانيا، ومسرحًا لتفاعلها الأول مع العالم الاستعماري الحديث. في ذاكرة الموريتانيين تحتل هذه المدينة مكانًا خاصًا، فهي عاصمة البدايات ومهد التحولات السياسية والثقافية التي مهّدت لقيام الدولة الحديثة.

تأسست سان لوي عام 1659م كأول مستوطنة فرنسية في غرب إفريقيا، وسرعان ما تحولت إلى مركزٍ تجاري وسياسي هام على ضفاف النهر. ومنذ مطلع القرن العشرين أصبحت عاصمةً للإدارة الفرنسية في موريتانيا، فكانت القرارات تصدر منها، والمراسلات الرسمية تمر عبرها، والموريتانيون يتجهون إليها لقضاء الحاجات أو متابعة الشؤون الحكومية. لذلك ظلت سينلوي تُذكر دائمًا باعتبارها رمز السلطة المركزية الفرنسية التي حكمت موريتانيا قبل الاستقلال.

من مدارسها خرجت البذور الأولى للنخبة الموريتانية الحديثة، وهناك درس الكتبة والمترجمون والمعلمون الذين تولّوا لاحقًا إدارة المكاتب والدوائر الحكومية في البلاد. كانت مدرسة «ويليام بونتي» الشهيرة في ضاحيتها منارةً تعليميةً إفريقية، مرّ بها طلاب من موريتانيا والسنغال وبلاد إفريقية أخرى، لتصبح سينلوي جامعةً مفتوحة قبل ظهور الجامعات.

في شوارعها كانت اللغة الحسانية تمتزج بالألفاظ الولوفية، وتتعانق الأزياء الموريتانية مع السنغالية في مشهدٍ إنساني يعكس وحدة النهر والناس. أقام الموريتانيون في أحيائها القديمة مثل «الگور» و«سور»، يتاجرون ويعملون ويتزاوجون، فتركت تلك المرحلة أثرًا عميقًا في الذاكرة الاجتماعية المشتركة بين الشعبين.

وبفضل مينائها النهري كانت سينلوي مركزًا لتصدير الملح والجلود والصوف والماشية القادمة من أراضي موريتانيا. ومنها كانت تنطلق القوافل نحو الداخل، تحمل السلع والأخبار والتعليمات الإدارية، مما جعلها شريان الحياة الاقتصادية والسياسية للبلاد قبل ظهور نواكشوط ومينائها الأطلسي.

ورغم أن العاصمة انتقلت رسميًا إلى نواكشوط سنة 1957، فإن سينلوي بقيت حاضرة في الذاكرة الموريتانية. يتحدث كبار السن عن «رحلات إنْدَر» كما لو كانت حجًّا صغيرًا إلى دار القرار، ويستعيدون مشاهد العلم الفرنسي يرفرف فوق المباني القديمة، والوفود الموريتانية التي كانت تحضر الزيارات الرسمية مثل زيارة الرئيس الفرنسي فنسون أوريول سنة 1947. لقد كانت تلك المدينة مرآة مرحلةٍ من تاريخ موريتانيا، مرحلة الميلاد تحت ظلال الاستعمار، لكنها أيضًا محطة انفتاحٍ على العالم الحديث.

إنّ سينلوي (إنْدَر) ليست مجرد مدينة عبرت الجغرافيا، بل ذكرى لا تغادر وجدان الموريتانيين. هي عنوانٌ لمرحلةٍ صعبة، لكنها أيضًا رمز البدايات، ومنها انطلقت أولى الخطوات نحو الوعي الوطني الذي قاد لاحقًا إلى الاستقلال. وفي كل حديثٍ عن التاريخ الموريتاني الحديث، تظل إنْدَر حاضرة كشاهدةٍ على زمنٍ تشكّل فيه الوعي، واختُبرت فيه العلاقة بين الماضي والاستقلال.

بقلم محمد غالي اعلانه ولد سيدي عثمان

شاهد أيضاً

احميده ولد احمد الطالب…

في الأيام الماضية، حاول البعض عبثًا النيل من سمعة رئيس محكمة الحسابات، السيد حميده ولد …