المؤثرون بلا مؤهلات

ي المغرب اليوم، لم يعد المرء يحتاج إلى شهادة ليصبح طبيبًا أو خبيرًا أو مفتشًا تربويًا. يكفيه فقط حساب على فيسبوك وشيء من الجرأة، حتى يوزّع الوصفات والنصائح والفتاوى كما توزَّع أوراق النعناع في السوق الأسبوعي. صار العالم الافتراضي يعجّ بـ”العارفين” بكل شيء: من كيفية علاج السرطان بالزعتر إلى تفسير الأزمات الاقتصادية بمنطق العين والحسد.

في خطوة مميزة قرّرت الصين أن تُغلق النافذة قليلًا لتمنح العقل فرصة للتنفّس. خطوة جديدة ضمن سياسة ضبط المحتوى الرقمي، تُلزم كل من يتحدث في مجالات دقيقة كالصحة والمال والقانون والتعليم بأن يقدّم ما يُثبت كفاءته العلمية والمهنية.

في الصين، الكلمة مسؤولية، والمعلومة شأن عام، والمؤثر ليس من يملك جمهورًا أكبر، بل من يملك معرفة أعمق.

أما في عالمنا العربي، وفي المغرب تحديدًا، فالمشهد معكوس تمامًا. هنا، الميكروفون لا يحتاج إلى شهادة، والكاميرا لا تسأل عن التكوين، والمنصة لا تفرّق بين الجهل والمعرفة. أصبحنا نعيش زمنًا رقمياً بلا حارس، يتكلم فيه من يشاء عن ما يشاء، ويكفي أن تكون أكثر جرأة من منافسيك لتتحوّل إلى “خبير” في أعين الناس.

الطب؟ يكفي أن تمتلك خلفية بيضاء خلفك وسماعة على عنقك لتصبح طبيبًا افتراضيًا.

التربية؟ يكفي أن تربي قطًّا في البيت وتلتقط له فيديوهات لتتحوّل إلى “خبير في التربية الحديثة”.

العلاقات الزوجية؟ جرّب فشلًا أو زواجًا مؤقتًا، وستجد جمهورًا من المتعطشين لنصائحك الذهبية في الحب والطلاق.

في المغرب، لا أحد يسأل عن الكفاءة، بل عن “عدد المتابعين”. منطق السوق دخل إلى الفكر، فأصبحت الآراء تُقاس بالمشاهدات، لا بالحجج. المنصات تحوّلت إلى مقاهي افتراضية كبيرة، يجلس فيها الجميع ليتحدثوا في كل شيء، من السياسات الحكومية إلى وصفات الأعشاب. كل شيء قابل للنقاش… ما عدا الكفاءة نفسها.

وراء هذه الظاهرة ملامح اجتماعية أعمق مما يبدو. فحين يُقصى الكفء من الواقع، يبحث الناس عن بدائل رمزية على الإنترنت. المواطن الذي لم يجد الطبيب متاحًا في مستشفى عمومي سيئ الخدمات، سيبحث عن “دكتور اليوتيوب” الذي يجيبه فورًا. والطالب الذي لم يجد أستاذًا قادرًا على تبسيط المفاهيم في القسم، سيجد نفسه أمام “مؤثر تعليمي” يشرحها بلغة قريبة منه.

هكذا يصبح الفراغ المؤسسي أرضًا خصبة للشبه معرفة، ويصبح العالم الرقمي بديلاً مؤقتًا عن واقع فقد الثقة في مؤسساته.

لكن المشكلة ليست في “المؤثرين” أنفسهم، بل في جمهورٍ وجد فيهم صدى لأحلامه المكبوتة. في المغرب، نعيش أزمة ثقة شاملة: لا نثق في السياسي ولا الطبيب ولا الأستاذ ولا الإعلام الرسمي. وحين تسقط الثقة، يبحث الناس عن بدائل، ولو كانت واهية. في النهاية، من السهل أن نُصدّق شخصًا يجلس أمام الكاميرا بثقة وابتسامة، أكثر من مسؤولٍ يتحدث بلغة خشبية لا تشبهنا.

التحوّل الرقمي في المغرب لم يصاحبه نضج معرفي ولا وعي نقدي. الهاتف صار وسيلة للتعبير، لكنه أيضًا صار وسيلة للتمويه. أصبحنا نستهلك الأفكار كما نستهلك القهوة: بسرعة، وبلا تمحيص. نشارك الفيديوهات التي تثير عواطفنا، لا التي تثير عقولنا. وهكذا، يتغذّى المحتوى السطحي من جمهورٍ يطلب الترفيه أكثر مما يطلب الفهم.

بينما الصين تشدد الرقابة لضمان جودة المعلومة، نحن نتعامل مع المحتوى وكأنه فُسحة ترفيه جماعي، لا وسيلة لصناعة الوعي. هناك، الدولة تعتبر الإنترنت امتدادًا للأمن القومي، وهنا، يُترك الفضاء الرقمي في مهبّ من “هبّ ودبّ”. في الصين، يُراقبون الكلمة لأنهم يدركون قوتها في تشكيل الأجيال. أما نحن، فنتجادل حول ما إذا كان المنع يُقيد الحرية، بينما تُقيد الجهالة عقول الناس في صمت.

ما يحدث في السوشيال ميديا المغربية ليس مجرد فوضى ترفيهية، بل انعكاس لنظامٍ اجتماعي فقد بوصلته. حين يغيب التعليم الجيد، تتكاثر نصائح “اللايف”. حين تضعف الصحافة، تكثر القنوات الشخصية. حين تغيب القدوة، يظهر المؤثر. كل فراغ في الواقع، يملؤه شخص على الإنترنت بابتسامة وفلتر.

لقد تحوّل المؤثر في المغرب إلى “زعيم مصغّر”، يملك جمهورًا، وسلطة، وصوتًا، ومالاً، دون أن يمرّ من أي مسار تكويني أو مساءلة. ومع غياب أي إطار قانوني واضح، صار من الطبيعي أن يبيع البعض الوهم في شكل علم، أو يقدم نصائح طبية قد تضرّ أكثر مما تنفع. لا أحد يحاسب، ولا أحد يراقب، لأننا ببساطة لم نحسم بعد علاقتنا بالحرية الرقمية: هل هي مسؤولية أم فوضى؟

الصين لم تمنع أحدًا من الكلام، لكنها اشترطت على من يتكلم في الطب أن يكون طبيبًا، وعلى من يدرّس أن يكون معلّمًا، وعلى من يحلل السياسة أن يكون على دراية بما يقول. نحن، بالمقابل، نخلط بين الحرية وغياب المعايير، بين التعبير عن الرأي ونشر الجهل. نعتبر الرقابة خطرًا على الحرية، لكننا لا نرى أن الجهل نفسه أكبر أشكال الاستعباد.

إن النقاش حول المحتوى الرقمي في المغرب يجب أن يتجاوز منطق المنع والإباحة، ليدخل في صلب السؤال الحقيقي: كيف نبني وعيًا جماعيًا يجعل من المعلومة مسؤولية لا تسلية؟ كيف نُربّي جيلاً يُفرّق بين من يقدّم فكرًا ومن يبيع وهماً؟ كيف نحمي الفضاء العام من التحوّل إلى سوق كبير للخرافة؟

الصين فهمت مبكرًا أن التحكم في المحتوى ليس تحكمًا في الناس، بل حماية لعقولهم. ونحن ما زلنا نعتقد أن الفوضى حرية، وأن الصوت العالي دليل على الصدق. بيننا وبينهم مسافة ليست في التكنولوجيا، بل في الرؤية: هناك، يعتبرون المعلومة أساس التنمية، وهنا، نعتبرها مادةً للنقاش والسخرية فقط.

ربما نحن لا نحتاج إلى قوانين مثل الصين، بل إلى مرآة فقط. مرآة نرى فيها أنفسنا كما نحن: شعب يثق في “يوتيوبر” يصف دواءً لعلاج السرطان أكثر مما يثق في طبيبٍ أفنى نصف عمره في الدراسة، ويقتبس من “لايف” عن الطاقة الإيجابية أكثر مما يقرأ كتابًا في الفلسفة. نحن لا نعاني من قلة المعلومات، بل من وفرتها بلا وعي. نريد الحرية، نعم، لكننا نريدها بلا مسؤولية، كما نريد الشهرة بلا كفاءة، والرأي بلا معرفة.

الفرق بيننا وبين الصين بسيط جدًا: هناك، من يتحدث بغير علم يُعاقَب… وهنا، من يفعل ذلك يُتابَع، ويُصفَّق له، ويُمنح وسام “المؤثر الوطني”.

آن الأوان أن نعيد التفكير في علاقتنا بالمحتوى الرقمي، ليس بمنطق الزجر أو المنع، بل بمنطق التربية على الوعي. لأن الخطر الحقيقي ليس في من يتحدث، بل في من يُصدّق كل ما يُقال

شاهد أيضاً

أرڭيبة.. “من أتمر إلى كَرته

تمتد منطقة أرڭيبة على حيز جغرافي واسع يبدأ من هضاب تكانت شمالاً، ويمتد جنوباً داخل …