بعد تأصيلنا لظاهرة الغلو والبغي في المجتمع الإسلامي قديما، واستعراضنا لمثال معاصر نجح في معالجتها، يجدر بنا التصدي لمحاولة فهم مصادر الغلو والبغي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
بخلاف ما يذهب إليه كثير من الباحثين المهتمين بالجماعات المتطرفة اليوم، فإننا نرى أن الغلو والبغي الذي يهدد مجتمعاتنا اليوم لا يعود في أصوله إلى تصور للدين يعود إلى حقب ماضية من التاريخ الإسلامي، بل يعود في مجمله إلى تيارات فكرية غربية بنت دينا جديدا باتخاذ موقف عدائي من الممارسة الدينية الكاثوليكية التقليدية التي تقلص نفوذها بالإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر، وعصر الأنوار في القرن الثامن عشر، والثورة الفرنسية سنة 1789.
هنا أيضا نجد أن المال كان الدافع الرئيس إلى رفع شعار ديني؛ فقد ثار لوثر ضد صكوك الغفران التي كان المسيحيون يشترون بها خطاياهم، ورفض التبرع للكنيسة طريقا للتكفير عن الخطايا.
هذه البداية الدنيوية جدا ستقود لوثر إلى رفض سلطة البابا، وإنكار حقه في تفسير الكتاب المقدس، ليلخص آراءه في 95 قضية ناقض فيها الاعتقاد الكاثوليكي الرسمي.
ولم يكن الإصلاح البروتستانتي سوى ليبرالية دينية تحرر العقيدة من إكراهات الكنيسة كما حررت السوق من تدخل الدولة. (راجع كتاب ماكس فيبر: البروتستانتية والرأسمالية) وأصبح الدين خاضعا لضمير الفرد، مثلما الاقتصاد يدار بالمبادرة الفردية. مثل الإصلاح البروتستانتي زعزعة للإيمان الرسمي القائم على مؤسسة صارمة تحدد قواعده، وما يترتب عليها من ثواب وعقاب.
لكن لوثر اضطر في النهاية إلى إنشاء كنيسة تبنت اللامركزية عكس الكنيسة الكاثوليكية، وقررت حرية التفكير حول القضايا اللاهوتية التي لم تعد الكنيسة تحتكر القول فيها، وهو ما سيشجع حرية التفكير عموما وانحلال الالتزام الديني الصارم بعد أن أصبح شأنا فرديا يديره المرء كما يدير بقية شؤونه.
ثم جاء عصر الأنوار ليتجاوز الإصلاح الديني في خطوة مترتبة عليه؛ فإذا كان الإصلاح قد حرر الفرد من سلطة الكنيسة بصفتها وسيطا بينه وبين إلهه، فإن عصر الأنوار سيميل إلى تحرير الإنسان من سلطة الإله ذاته، مستبدلا العقل بالوحي.
فالعقل يستطيع أن يدرك كل أشكال المعرفة، ومن ثم فلا حاجة إلى الوحي، والميتافيزيقا ليست سوى وهم، وما ينبغي للعقل أن ينشغل به هو الفلسفة التجريبية التي تحاول الإحاطة بالعالم الطبيعي الواقعي، وهو وحده العالم الموجود حقا. وبذلك تم تأسيس ديانة العقل ضدا على ديانة الوحي.
لقد كانت الثورة الفرنسية نتاجا لعصر الأنوار، وما طرح فيه من أفكار حول الدين والسلطة، فقد كان شعارها: “شنق آخر الملوك بأمعاء آخر قسيس”، ليستولي الإنسان على ما كان لقيصر، وما كان لله، في نفس الوقت، لتصبح “الإنسانية” ديانة بديلة للبشر. يقول أرنست رينان: “إني على قناعة راسخة بأن الإنسانية النقية ستكون دين المستقبل، فهي عبادة كل ما يتعلق بالإنسان…”
في هذه الأجواء المشحونة بالتمرد على الممارسات الدينية التقليدية، والعقائد الرسمية ستظهر فلسفة هيغل (1770/1831) المتأثر باسبينوزا الذي شكك في الصدق التاريخي للعهد القديم، في كتابه:”رسالة في اللاهوت والسياسة.”، وكانط؛ رائد الديانة العقلية، كما تأثر هيغل بفلاسفة الأنوار، والثورة الفرنسية، لينتظم بذلك في سلسلة المرتابين في العقائد، والشعائر الدينية التقليدية.
من هيغل سينحدر توجهان؛ اليمين، واليسار. وإذا كان اليمين الهيغلي حافظ على الشكل التقليدي لفلسفة هيغل الذي يعطي أسبقية للروح على المادة، فإن اليسار الهيغلي (فيورباخ، وماركس) سيميل إلى تأويل فلسفة هيغل في الاتجاه المادي اللاديني الملائم للمناخ السائد أيامهما.
وهكذا سيقول ماركس إنه وجد هيغل يمشي على رأسه (العقل)، فأقامه على قدميه (المادة). وبذلك بدأ الفكر الماركسي انتشاره الواسع باعتباره ثورة تقوم على “البراكسيس” بدل التأمل، وتهدف إلى تحقيق الحياة السعيدة لكل الناس في هذا العالم الأرضي بدل انتظارها في عالم آخر “لا وجود له” إلا في خيال النصابين والمغفلين.
ورغم رفض فيورباخ، وماركس وإنجلز للديانات باعتبارها وهما تجاوزته البشرية حسب قانون الحالات الثلاث الذي وضعه أوغست كونت، إلا أنهم، خاصة ماركس، وضعوا تصورا لحياة الناس يحصرها في الجانب المادي باعتباره الحقيقة الوحيدة. ومرة أخرى يشاد تقليد ديني جديد،(أنظر: ريجيس دوبريه: نقد العقل السياسي) ضدا على التقليد الذي كان سائدا، ويتمحور عكسه حول المال، والحياة الدنيا.
سيموت ماركس، بعد حياة بائسة في لندن، دون أن يرى أفكاره تتحقق في بريطانيا التي توقع لها النجاح فيها. لكن لينين سيتكفل بوضع أفكار ماركس موضع التنفيذ في الاتحاد السوفييتي، لتنهار بعد سبعين سنة غالب الأنظمة السياسية التي تدعي الانتساب للمادية التاريخية.
لم يكن العالم الإسلامي بعيدا عن هذه التطورات الفكرية التي عرفتها أوربا. فقد تعرف العرب على الفكر الغربي الحديث مع حملة نابوليون على مصر 1798، ومن خلال البعوث التي أرسلها محمد علي إلى الغرب 1813، لجلب العلوم والتقنيات الحديثة، إضافة إلى الإرساليات التبشيرية البروتستانتية التي انتشرت في البلدان التي كانت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية. (أنظر تفسير محمدالطاهر بن عاشور1879/1973، للقرآن بعنوان: “التنوير والتحرير”، في استدعاء واضح لمفردات عصر الأنوار، وقد التقى محمد عبده في تونس). ويرجع بعض مؤرخي الأفكار بداية النهضة العربية إلى حملة نابليون على مصر.
انقسمت النهضة إلى تيارين متصارعين؛ دعا أحدهما إلى تقليد الغرب في كل شيء، والتنكر للموروث العربي الإسلامي لتستطيع الأمة النهوض كما نهضت أوربا. (لن نهتم بهذا التيار لخروجه عن سياقنا)، بينما دعا الآخر إلى تحيين التراث ليلائم مقتضيات العصر الأوربي الزاحف.
مثّلت هذا التيار شخصيتا الأفغاني ومحمد عبده، فاقتبسا من الفكر الغربي ما حسباه لا يتعارض مع جوهر التراث الإسلامي.
فدعا الأفغاني إلى إعادة فتح باب الاجتهاد (قارن دعوة لوثر إلى حرية تفسير الكتاب المقدس)، وألف محمد عبده “رسالة التوحيد” مستعيدا عقلانية المعتزلة ضدا على “نصية الأشاعرة” (قارن الدعوات في الغرب إلى الديانة العقلية)، وتواطأ الشيخ والتلميذ على نقد مظاهر التدين التقليدي، والسخرية بالمؤسسات الدينية الرسمية (“وساخة الأزهر” حسب محمد عبده)، (قارن الحملة على الكنيسة الكاثوليكية).
كان الأفغاني فقيرا، سائحا في البلاد الإسلامية، انتقل وتلميذه إلى فرنسا حيث أسسا جريدة العروة الوثقى لنشر أفكارهما السياسية الدينية (قارن تشرد ماركس، لقاؤه مع إنجلز في باريس، واشتغالهما بالصحافة لبث أفكارهما السياسية المعادية للدين).
كان ماركس وإنجلز ينشطان في وسط تنتشر فيه الأفكار المعادية للتدين التقليدي فذهبا بتلك الأفكار والمشاعر إلى غاياتها القصوى لتتحول إلى معاداة سافرة للدين.
بينما كان الأفغاني و محمد عبده في بيئة يتعرض دينها لهجوم خارجي فضّلا التصدي له (رسالة الأفغاني ضد النيتشريين، ورد محمد عبده على هانوتو)، ليكتسبا بذلك شرعية النقد من الداخل.
وإذا كان لينين قد وظف أفكار ماركس وإنجلز لصياغة الأيديولوجيا الماركسية اللينينة، فإن حسن البنا سيستفيد كثيرا من أفكار الأفغاني وعبده في الدعوة إلى “نهضة الشعوب الإسلامية”.
وسيمثل ابن تيمية، في سياق الفكر الإسلامي المعاصر ما مثله هيغل في الفكر الغربي.
إذ نجد تيارين في الفكر الإسلامي ينتميان إلى ابن تيمية يمكن عد أولهما؛ التيار السلفي يمينا، وحركة الإخوان المسلمين يسارا. (لعل آراء صاحب “الخلافات السياسية بين الصحابة” التي يؤصل من خلالها فكر الإخوان السياسي بتوسط ابن تيمية، ضمن صراع الحركة مع السلفيين على تراثه، تستعيد مع الاحتفاظ بالفروق، تنظير هربرت ماركيوز في “العقل والثورة” لثورية هيغل ضدا على اليمين الهيغلي البرجوازي، وهو الكتاب الذي سيرد عليه جاك أتالي في مؤلفه “كارل ماركس، أو فكر العالم”، حيث يظهر ماركس، المفكر البرجوازي، وهي نفس أطروحات آلتوسير عن كتابات الشباب لماركس).
ويستمر التشابه بين الفكر الإسلامي المعاصر، والفكر الغربي الذي أخذ عنه في حركة الإخوان التي تكاد تستنسخ تاريخ الفكر الماركسي(راجع: الكنتي: الماركسيون والإسلاميون وحدة مسار)، فقد خرجت من عباءتها كل الحركات المتطرفة المعاصرة منتسبة إلى أحد أبرز مفكريها؛ سيد قطب، كما انتسبت الحركات اليسارية الفوضوية العنيفة إلى أحد أشهر منظري الفكر الماركسي؛ تروتسكي، وليس ابن لادن سوى استعادة لتشي جيفارا الذي قتلته المخابرات الأمريكية في أدغال بوليفيا، كما قتلت ابن لادن في باكستان بعد مطاردة طويلة في كهوف أفغانستان. وأقام الإخوان تنظيما دوليا على غرار الاشتراكية الدولية، واعتمدوا للمشاركة في الحكم على التحالف مع أحزاب سياسية تناقضهم فكريا لكنهم لم يروا بأسا من التسلق عليها سياسيا كما فعلت الأحزاب الماركسية في الاتحاد السوفييتي (البلشفيك، والمنشفيك)، وغيره من البلدان الشيوعية، مثل يوغسلافيا وبولندا. فقد تحالف الإخوان في مصر، أيام حكم مبارك مع ليبراليي الوفد، ثم مع اليساريين، وأثناء فتنة الربيع تفاوضوا مع الجيش، ثم تحالفوا مع الخارجين على السلطة، على اختلاف مشاربهم، وفعلوا نفس الشيء في تونس، وفي ليبيا.
ومثلما غيرت الأحزاب الشيوعية عقيدتها الثورية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار جدار برلين، فتخلت عن دكتاتورية البروليتاريا، والاقتصاد الموجه، والحزب الطليعي، تخلت حركة الإخوان المسلمين، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، عن الدولة الإسلامية لصالح الدولة المدنية smile رمز تعبيري العلمانية)، وعن الشريعة لصالح الشرعية التوافقية على دستور يبيح الكفر ويجرم التكفير، وأبدلت بشعار الإسلام شعارات التنمية والعدالة، والعدالة والتنمية، والإصلاح والتنمية، وأقرت أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ليس من وظائف الدولة، وفتحت الخمارة إلى جانب الجامع، وصوت منتخبوها على تخفيض أسعار الخمور، ثم رفعوا الجلسة لأداء الصلاة…
لقد كان التطرف والعنف في أصل تأسيس حركة الإخوان على يد حسن البنا رحمه الله الذي بايعه أعضاء الجماعة على المسدس والمصحف في غرفة مظلمة، وأنشأ الجهاز الخاص لجمع المعلومات وتنفيذ الاغتيالات.
كما كان جمع المال من أولويات الحركة، وكان أول متبرع لها شركة قناة السويس الفرنسية، ونص ميثاق الإخوان على ضرورة التبرع للدعوة، والوقف لها، بل قرروا لها نصيبا في الزكاة حسب ما ورد في ميثاقهم. ففي النظام الأساسي للإخوان المسلمين الصادر في 02 من شوال 1364هـ، الموافق 08 من سبتمبر 1945، المقر بعد التعديل من قبل الهيئة بالإجماع في 12 من رجب 1367، الموافق 21 من مايو 1948، تقول المادة السادسة:” على كل عضو أن يقرر على نفسه اشتراكا ماليا شهريا أو سنويا يقوم بتسديده بانتظام، ولا يمنع ذلك من المساهمة في نفقات الدعوة بالتبرع أو الوصية أو الوقوف أو كلها معا، كما أن للدعوة حقا في زكاة أموال الأعضاء القادرين على ذلك…” (نص النظام).
ومنذ التأسيس أقام الإخوان مؤسسات مالية يجنون منها الأرباح وتؤمن لهم مصادر مالية ينفقونها على نشاطهم السياسي، وهي غالبا مؤسسات تسجل تحت غطاء العمل الخيري مما يعفيها من الضرائب ويسمح لها بتلقي التبرعات من مصادر مجهولة، وتساهم في إعادة تدوير الأموال ذات المصادر المشبوهة.
إن المواجهة الناجعة للتطرف تكمن في تجفيف مصادر تمويله إذ غالب ما يجمع المتطرفين هو مصالح دنيوية تكتسي لبوس الدين، ومن ثم لا ينبغي تضييع الوقت مع منظريه في مماحكات عقدية تهتم بالأفكار، وتهمل الأموال؛ العصب الحقيقي لنشاطات المتطرفين السياسية…ألم يكتب الشنقيطي أن “الإسلاميين [الإخوان] واليساريين يشتركون في نفس الغايات الدنيوية”.. وشهد شاهد من أهلها..
د.محمد إسحاق الكنتي