ضحالة “نظرية المؤامرة

téléchargement

تكاد لا تمرُ قضيةً أو حادثةً أو مشكلةً أو سلوك أو تصرف معين في وطنِنا العربي، إلا وتمّ ربطه بطريقةٍ أو بأخرى في “نظرية المؤامرة”.
ولا أريد الدخول في التفاصيل الدقيقة للسياسة ودهاليزها، لأنّها مسألةٌ عويصة. ولكن، هناك أمورٌ كثيرة تم إسقاطها في منطقتنا على النظرية نفسها، إلى درجة أنّ المتابع للأحداث الدائرة يعتقد، للوهلة الأولى، أنّ سبب المعضلة الأساسية مؤامرة “الغرب” على شرقنا العربي.
تخيل معي، عزيزي القارئ، أنّ الفرد الذي يرمي “علبة البيبسي”، و”قطف السيجارة”، و”الفضلات” بشكلٍ عام، من نافذة السيارة، و”البصق” في الشوارع والحدائق العامة، والذي يخالف القوانين العامة، وقوانين المرور، ضارباً بسلوكهِ هذا كلّ الأخلاقيات والسلوك السليمة عرض الحائط، سببه “المؤامرة” الكونية على الفرد نفسه.
وتهميش الشباب الذين يُعتبرون لبنة المجتمع، واضطهاد النساء وحرمانهم من أبسط حقوقهن المشروعة، والتمسك بـ “قدسية” بعض العادات والتقاليد، على الرغم من تخلفها وانحطاطها،… وكلّ الأمراض النفسية والعقلية التي تعاني منها مجتمعاتنا، مسؤولة عنها الدول “الإمبريالية”.
وجديد الدراسات التي تم نشرها، والمختصة بالوقوف على نسبة القراءة السنوية العالمية، بيّنت أنّ الفرد العربي يقرأ “ربع” صفحة في السنة الواحدة. وفي المقابل، يقرأ الفرد الأميركي أحدَ عشرَ كتاباً، فهذا العزوف عن الكتب والمكتبات، والثقافة عموماً، عائد بصفةٍ أساسية كما يرى البعض، إلى تآمر “الدول العظمى” على “الدول النامية”.
إضافةً، أنّ العنصرية، بين الرجل والمرأة، والابن والبنت، والأخ والأخت، والعم والخال، والقريب والبعيد، والطائفية بين السنة والشيعة، والمذهبية بين “السني” الحنبلي والشافعي والحنفي والمالكي، وبين “الشيعي” الزيدي والعلوي والاثني عشري، وكلّ الخلافات والمشاحنات بينهم، يعود سببها إلى “نظرية المؤامرة”، على الرغم من أنّ الواقع يقول إنّ “العنصرية والطائفية” على سبيل المثال، هي مشكلات موجودة مُنذْ قرونٍ مضت، حتى قبل وجود الدول التي تقع في دائرة الاتهام على الخارطة، والولايات المتحدة الأميركية مثالاً.
نعم، يخبرنا التاريخ أنّ المؤامرات حدثت في أوقاتٍ لا يمكن حصرها، وهذا طبيعيٌ، ولا يتعدّى المألوف، لأن الحضارات التي تكون في قمةِ عزها وقوتها، تُريد التمدّد والسيطرة على حساب الحضارات الأخرى الأقل شأناً منها.
فعندما كانت الدولة الإسلامية في عزّها، وصلت إلى الأندلس، وحكمت ما يُقارب الثمانية قرون على حساب الحضارة الغربية المسيحية. ولكن، انقلب الحال الآن وانعكست الأحوال… وهكذا دواليك.
يؤكد الواقع الذي يُحيط بنا أنّ الغالبية العظمى من أصحاب السياسة، والسلطة، والقضاء، والنشطاء الاجتماعيين، والأكاديميين، والخبراء في مختلف المجالات والعلوم… إضافةً إلى “الطبقة العامة”، يعتقدون أنّ كلّ المعضلات التي يعانون منها، يقفُ وراءها المعسكر الغربي (بقيادة الولايات المتحدة الأميركية) وزمرتها، والمعسكر الشرقي (بقيادة روسيا) ومن تبقى معها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
حقيقةً، أنّ هذا التحليل الفضفاض يعفي المسؤولين والمعنيين من أيِّ مسؤوليةٍ كانت، ويُريح عقولهم إن كان لديهم عقول أصلاً، من التفكير في الحلول التي تُخرج المنطقة من حضيض التخلف والتشظي والجهل والانحطاط والتعصب الأعمى.
وثمة شيء لا يعرفه كثيرون أن الشعوب الغربية، الأوروبية منها والأميركية، لا تكترثُ إلا لمصالحها الضيقة، ولا يبالون لأمرنا، كما يعتقد المهلهلون لـ “نظرية المؤامرة”.
صعود دونالد ترامب، وفوزه بثقة الحزب الجمهوري، في ماراثون الانتخابات الرئاسية الأميركية، لم يحدث لأن “ترامب” معادٍ للمسلمين، وإنّما فاز بثقة كثيرين، لأنّ برنامجه الانتخابي يدعو إلى الاهتمام بالشأن المحلي الأميركي، وعدم خوض حروب بالنيابة، تستنزف مليارات الدولارات من خزينة الحكومة، فهو لعب على “الوتر الحساس” الذي دغدغ فيه مشاعر الشعب الأميركي البراغماتي.
لا بدَّ أن يتوقف المنادون بـ “نظرية المؤامراة”، كخطوةٍ أولى.
وعوضاً عن “هرطقاتهم”، يجب تحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، والمضي في إيجادِ حلولٍ جذرية بعيدة المدى، تُنقذ المنطقة مما تعانيه، وتستأصل كلّ “الأمراض” التي نخرت جسدها.  

بشير الكبيسي

شاهد أيضاً

فعاليات وصول رئيس الجمهورية غزواني إلى كينيا

فعاليات وصول رئيس الجمهورية غزواني إلى كينيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *