عادت منطقة غرب افريقيا لصدارة المشهد العالمي، وعلى غير العادة؛ لم يكن ذلك نتيجة للتحديات الامنية بالمنطقة؛ كالقرصنة بخليج غينيا أو لعمليات بوكو حرام … انما ارتباطا بانتخابات مثيرة للجدل بغامبيا وتنازع على نتائجها، بين الرئيس المنتهية ولايته ومرشح المعارضة.
ففي بداية هذا الشهر شهدت البلاد انتخابات رئاسية اطمان الرئيس المنتهية ولايته يحيى جامع (51 سنة) بفوزه السهل، وهو القائل بأنه سيحكم البلاد لبليون سنة!، وتأرجت توقعات المعارضة بين التفاؤل والتشاؤم متخوفة من التزوير والفساد، وهو ما دفع الاتحاد الاوروبي لعدم اشرافه على هذه الاستحقاقات، وحدهم مبعوثو الاتحاد الافريقي الساهرون على ذلك، ولأجل تعزيز حظوظها تكتلت احزاب المعارضة في تحالف “الجبهة الديمقراطية المتحدة” (ثمانية احزاب) وقدمت اداما بارو (51 سنة) كمرشح لها، وعشية هذه الاستحقاقات اغلقت السلطات حدود البلاد وقطعت الاتصالات عنها.
وسط هذه الاجواء، جرت الانتخابات بإشراف هيئة انتخابات مستقلة، وأعلنت عن نتائجها وتحققت المفاجأة، فقد فاجأ مرشح تحالف المعارضة الجميع بفوزه بأغلبية الاصوات (45 بالمائة) وخسر الرئيس الحاكم بحصوله على (36 بالمائة)، والمفاجأة الثانية اعلان الرئيس المنتهية ولايته على التلفاز الوطني قبوله بشرعية الانتخابات ونتائجها واحتكامه لإرادة الشعب الغامبي وارادة الله، وهاتف الفائز مهنيئا ومعبرا عن استعداده لتسليم السلطات في الموعد المقرر لها.
إلى ذلك، أثار الاستسلام المفاجئ لجامع واقتناعه بأكثر من عشرين سنة على سدة الحكم استغراب الجميع، وهو المعروف بشخصيته الغريبة وبمنطقه العجيب، وبعد اسبوع سينتهي الاستغراب، فقد أعلن انه سيطعن امام المحكمة العليا رغم اقالته لقضاتها منذ ما يزيد عن سنة، كما دافع على فكرة اعادة الانتخابات لاقتناعه بوجود اختلالات وشكوكه حيال نزاهتها، ومن المتوقع ان تنظر المحكمة في طعونه بعد أيام.
وللإشارة، فطيلة اثنين وعشرين سنة كانت غامبيا تحت حكمه، فبعد استقلالها عن المملكة المتحدة، أعلنت العودة لنظام ملكي دستوري داخل نطاق الكومنولت البريطاني، وتمخض عن استفتاء شعبي تحولها لنظام جمهوري، استطاع داودا جاوارا رئاسة الجمهورية والفوز بالانتخابات، وحاول بناء اولى اللبنات الاساسية للجمهورية، في بلد صغير يركز اقتصاده على الانتاج الفلاحي والسياحة، غير ان المصاعب الاقتصادية ستنهي حكمه، فبعد فشل محاولة انقلابية عليه بتدخل سنغالي اثمر وحدة بين البلدين انتهت بالفشل.
وفي ارتباط بما سبق، سينجح الانقلاب العسكري في انهاء حكم الرئيس سنة 1994، وسيظهر الملازم الاول يحيى جامع كزعيم للانقلابين وسيشكل حكومة عسكرية، فانغلقت البلاد على نفسها خلال حكمه، وكأن الانغلاق الجغرافي غير كاف؛ فالبلاد باستثناء منفذها البحري مطوقة بالجارة السنغال من كل الجهات، وسيعمل إضافة لذلك، لتوطيد نفوذه باكتساحه لكل الانتخابات الرئاسية اللاحقة. فبعد إعلانه العودة للحكم المدني واقراره لدستور1996، وبشرعية الانتخابات (حدد الدستور ولاية الرئيس في خمس سنوات) سيفوز لمرات عدة، فأحكم سيادته على اصغر بلد بالمنطقة، والذي يتبجح بإنجازاته ودوره في تاريخه، ولعل اغربها في سجل قراراته الرئاسية؛ انسحابه المفاجئ من منظمة الكومنولت ومن المحكمة الجنائية الدولية واعلانه البلاد جمهورية اسلامية، وفي سجله الشخصي القابه الكثيرة: الحاج, الاستاذ, الدكتور، واضاف قبل سنة لسجله لقب ”باني الجسور !”، ناهيك عن ادعاءاته الكثيرة أبرزها، اقراره باكتشاف علاجات لبعض الامراض كالإيدز والعقم، رغم ان البلاد تصنف في صدارة الدول المتدهور صحيا.
وفي ظل هذه الظروف، سيفاجئ بلد المليون ونصف نسمة حاكمه بمعاقبته على فشله بالانتخابات الاخيرة، وستشكل هذه الاستحقاقات لعنة لمسار يحيى جامع، وستظل مؤشراتها راسخة في ذهنه، بعد أن أكد الشعب الغامبي أن ثمة خيارات أخرى غير الانقلابات الثورية والعسكرية بتوسل التغيير من الداخل. وستتوالى بيانات الترحيب بالأجواء التي سادت الاستحقاقات وبقبول الرئيس بنتائجها، غير أنه سينقلب ليختار خيار التصعيد باتهامه للجنة الانتخابية بالتزوير وترجيحه لفوزه، وتشديد موقفه مؤكدا ان لا احد سيحرمه من النصر الا الله، لتتغير لغة البيانات ويتوجس الشعب الغامبي من المستقبل.
ومن جانب أخر، فالرئيس الجديد انطلق للسياسة بعد استكمال دراسته ببريطانيا فانخرط في صفوف حزب الاتحاد الديمقراطي وسيتوج مساره بنجاح في عالم المال كمستثمر بمجال العقارات بدأ من 2006، بالتوافق مع تقدمه بخطى ثابتة للمشهد الحزبي والسياسي بعد اعتقال قيادة حزبه، فانتخب كرئيس للحزب فمرشح للائتلاف المعارض، ونجح في الاختبار معلنا تحولا جديدا في تاريخ البلاد بتعهده بمراجعة قراراته سلفه وباحترام حقوق الانسان والافراج عن المعتقلين السياسيين، فهل سينجح -حارس الامن الخاص أثناء دراسته ببريطانيا- في الوفاء بتعهداته؟
وللمفارقة، فقد كان من المقرر تسليم السلطات للرئيس الجديد يوم 18 يناير، غير ان الانقلاب المفاجئ والغامض للرئيس المنتهية ولايته، والذي يفسر بتخوفه من مصير سابقيه بالمنطقة كرئيس ساحل العاج غباغبو ورئيس التشاد حسن حبري (…) حيث يتخوف من اتهامات له بالفساد والانتهاكات لحقوق الانسان والتعذيب وقتل الصحفيين والمعارضة ..، فشوقه للسلطة، وتخوفه من محاكمته جعلته يرفض تسليم السلطة.
وفي السياق ذاته، ووسط هذه المعضلة، تخوفت القوى الاقليمية وفي مقدمتها الجارة السنغال من تطورات الاحداث بالبلد بعد انباء عن عسكرة العاصمة وسيطرة الجيش على بعض المقرات الحكومية، فطالبت بعقد اجتماع لمجلس الامن – كعضو غير دائم بالمجلس – دعا بيانه الرئيس جامع لتسليم السلطات بشكل عادي دون تأجيل وشروط، وهو نفس الطلب الذي التزم به الاتحاد الافريقي، مؤكدا ان مزاعم الرئيس المنتهية صلاحياته باطلة، ومن اجل التهدئة والوساطة ارسلت منظمة غرب افريقيا وفد رسميا برئاسة رئيس نيجيريا للتفاوض، وحل بالعاصمة وتباحت مع الرئيس المنتهية والرئيس المنتخب من اجل فهم مسارات الازمة، واقناع جامع بتسليم السلطة وللحيلولة دون تجييش الاثنيات بالبلد، كما طالبت عدة هيئات داخلية واتحادات ونقابات على ادانة احتفاظ الرئيس جامع بالسلطة.
وبلهجة صريحة وواضحة، رد جامع عبر تصريح للتلفزيون الرسمي على مطالبهم بالسخرية مؤكدا ان الحل الوحيد هو اعادة الانتخابات، متهما اجتماع قادة المجموعة الاقتصادية بغرب افريقيا بانه شكلي، وهدفه تنحيته، متهما المجموعة بخرق نصوصها الداخلية بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلاده، متسائلا بسخرية عن قرارات الإتحاد الافريقي، من هم حتى يأمروني بالمغادرة الفورية لبلدي؟ ومن قادة المجموعة الاقتصادية وحديثهم عن حضور حفل تنصيب خصمه، ولم يفوت الفرصة ليتهم القوى الاستعمارية الغربية بإستنزاف خيرات البلاد ومسؤوليتها عن مشاكل القارة، مهددا، فهل سيجنب نفسه مصير غباغبو؟
ورغم ذلك، تأمل التحركات الاقليمية والدولية لاحتواء الازمة وتجنيب البلاد مصير ساحل العاج خلال ازمات الرئاسيات 2010، ووسط الغموض حول مستقبل الأزمة تهدد المجموعة الاقتصادية بالتدخل من اجل ازاحة الرئيس باستعمال القوة، وجرى تجهيز القوات السينغالية لتولي المهمة. وتجدر الاشارة، إلى أن الازمة الأخيرة تماثل الازمة الايفوارية 2010-2011 والتي انطلقت بعد ادعاء لوران غباغبو فوزه بالجولة الثانية على منافسه الحسن وتارا، والذي أكد أحقيته بالفوز، فساند الجيش الايفواري الرئيس المنتهية صلاحياته، مقابل دعم المجتمع الدولي لواتارا، فانقسمت البلاد يدعم كل طرف مرشحه وانطلقت مواجهات واشتباكات (…) توجها غباغبو بدعوته لقوات حفظ السلام لمغادرة البلاد، وتطورت الاحداث باشتباكات بين قوات موالية للجانين، فتدخلت قوة خاصة فرنسية لتحسم الامور ميدانيا بعد القاء القبض على غباغبو، بعد ان فشلت كل المساعي الدبلوماسية لإقناعه بالتنازل عن السلطة، فجرى تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته على ارتكاب جرائم ضد الانسانية.
وعلى جانب اخر، شهدت عدة دول افريقية انتخابات شابتها اختلالات واتهامات، واعمال عنف، ويبدو ان ازمة الإنتخابات بالكونغو وصلت للحل، فبعد رفض الرئيس المنتهية ولايته اجراء انتخابات والتنازل عن السلطة، انطلقت مظاهرات منددة باحتفاظه بالسلطة خلفت عدة ضحايا، توجت باتفاق مع المعارضة على احتفاظه بمنصبه مقابل اجراء انتخابات قبل نهاية العام القادم، مع تعهده بعدم تعديل الدستور وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
وبالعودة الى مسارات الازمة بغامبيا، فتعثر عملية الانتقال السلمي للسلطة لخلفة تواجه بتعنت جامع وتمسكه بالبقاء، مستندا على ولاء الجيش له فقد استطاع خلال طيلة سنوات حكمه ضمان ولاء الجيش، فنجح في القضاء على المناوين له وضمن ولاء قيادات الجيش بترقيته لحلفائه وتمكين كبار القادة من امتيازات، كما ان اغلب قادته منتمون لعرقيته الجولا، بالتوازي مع ضمانه ولاء الحرس الرئاسي، غير انه يواجه تيارات معارضة داخل المؤسسة العسكرية، حاولت أكثر من مرة الانقلاب عليه اخرها قبل عامين.
وأخيرا، من المتوقع أن يتسلم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السلطة يوم عشرين يناير بشكل سلس، وقبله بيومين، سيكون جامع قد اختار تسليم السلطة، أو جر البلاد لانفلات امني غير محسوب الوقائع، وفي انتظار ذلك، يتمنى الشعب الغامبي أن تنجح المساعي الدبلوماسية الاقليمية في حسم الامور وديا، وتجنب البلاد الانجرار لحرب اهلية.
المصدر: أفريكا عربي