من هو الملازم انيانغ مصطفى احد قادة محاولة انقلاب 16 مارس1981 الذي تم اعدامه

ولد في النعمه بعام 1941 لأسرة ابَّ ولد عبد القادر طفل سماه والداه “محمدا” قبل أن تعاد تسميته على الكبر “كادير” .

بدا الطفل وهو يدرج مدارج صباه الأولى مولعا، شغوفا بـ”العسكرية”؛ فكان يهمل العناية بإبل أهله في متابعاته المبهورة باللتدريبات العسكرية للجنود الفرنسيين في قاعدة النعمه.

وقد أخذ بنفسه مبادرة الانضمام للجيش، فقام بإرسال “تعهد” لرئاسة الجمهورية بالخدمة في الجيش بجد وإخلاص. شاءت الأقدار أن تسقط في يد القائد الفرنسي فرانسوا بيسلي (François Besley) الذي رد عليه شخصيا بالقبول و الترحيب وتولى أمر تفقيهه في الاجراءات المطلوبة لذلك إداريا.

بعد تكوين قصير في “مدرسة الفرسان بسومير”، أصبح كادير، سنة 1961، أول مظلي موريتاني وتم تكليفه، في العام 1962، باكتتاب جنود لـ “وحدة الجمالة بعيون العتروس” قبل أن يتم تعيينه، وهو ابن 22 سنة فقط، ممثلا لبلاده في لجنة الدفاع التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية. شغل منصب قائد المكتب الثاني في انواكشوط والقائد المساعد للجيش في أطار والقائد في أكجوجت والقائد العسكري لمدينة انواكشوط ثم حاكم بئر أم اكرين، وهو المنصب الذي غادره بعد طلبه السماح له بالانضمام لوحدة الطيران رغم أن منصب الحاكم كان يمثل حينها “ذروة أرستقراطية المناصب الرسمية”. نجح في كل الاختبارات وحصل على منحة لتعلم الطيران في فرنسا، وعاد إلى انواكشوط ليتم تعيينه أول قائد عام للقوات الجوية الموريتانية. ومعه بدأ التسلح الجوي لموريتانيا التي ستحظى في السنة الموالية بمقاتلات جوية إنجليزية وأيرلندية وكندية.
تكلل مساره المهني بتعيينه، في نوفمبر 1975، مسؤول تنظيم وتنسيق الاحتفالات العسكرية المخلدة للذكرى الخامسة عشرة لعيد الاستقلال الذي تميز بعرض جوي قامت به الجوية الموريتانية لأول مرة في تاريخها. لم يتوقع، رغم أن كل الدلائل كانت تشير إلى ذلك، أن تتعرض بلاده في أقل من اسبوعين من ذلك لاعتداء من البوليساريو في بئر ام اكرين وإينال، فانتقم لبلاده بعد الاعتداء بأسبوع واحد بسيطرته البطولية والأسطورية على مدينة لكويره، وإن كان ذلك قد أدى بالحرب إلى أن تأخذ منحى جديدا تميز بتعمد استهداف “العظم الموريتاني المكسور” والذي كان العاهل المغربي حينها يُسِر إلى زواره بأنه – أي العظم الموريتاني- “سيفر من الحرب تاركا المفتاح تحت دواسة (paillasson) الغرفة”.

شنت البوليساريو، في 8 يونيو 1977، هجوما شرسا على انواكشوط لاحتلاله وبالتزامن مع ذلك كانت تحاصر في أم التونسي (80 كلم شمال انواكشوط) فيلقا موريتانيا غاصت سياراته في الرمال وعجز عن الحراك وعن الاتصال بالقيادة. اطلع العقيد كادير على الوضع من طائرته وبادر بمهاجمة العدو مركزا على حشوده وإمداداته؛ مما رفع معنويات الفيلق وسمح له بالتقدم، ثم قام وفريقه الجوي بمطاردة فلول البوليساريو وقتل زعيمها التاريخي مصطفى السيد الولي.
ولا يستبعد اعل الطالب نجل كادير أن يكون الهدف من إعدام والده المتسرع هو الانتقام من هذه العملية التي أودت بحياة “الزعيم”، خصوصا أنه حُكم عليه بالإعدام سنة 1980؛ أي قبل انقلابه.

في 24 مارس 1981 انعقدت لمحاكمة المتهمين، في قاعدة اجريده العسكرية، محكمة العدل الخاصة تحت رئاسة رئيسها المقدم الشيخ ولد بيده وبعضوية الرائد صو صمبا والنقيب محمد ولد ابيليل والملازم أحمد ولد امبارك (اعتذر أحد أعضاء المحكمة؛ لأن بعض المتهمين أقارب له)، وأصدرت حكما بالسجن المؤبد مع الأعمال الشاقة على غالبية المتهمين وبالإعدام على أربعة من الضباط هم: المقدم كادير، والمقدم أحمد سالم ولد سيدي والملازم انيانغ مصطفى والملازم محمد ولد دودو سك. عندما نطقت المحكمة بحكمها قال كادير لرفاقه: لقد تركناكم مع أطفالنا ويجب أن تجابهوا حتى النهاية وحتى يتبين الحق.

أما المقدم أحمد سالم ولد سيدي فهو الرجل الثاني في التنظيم، وكان محل ثقة ولد هيداله الذي قام بتكليفه بالتوقيع باسم بلده على اتفاقية السلام مع البوليساريو في الجزائر. قلَبَ ولد سيدي المجن لولد هيداله بسبب سياسات هذا الأخير التي جعلت الصحراويين أكثر حظوة في خيرات موريتانيا من الموريتانيين أنفسهم، حسب تأويل أنصار ولد سيدي. ثم التحق، يوم 29 مايو 1980، بالتحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية (A.M.D). صرح أمام المحكمة بأن المسؤولية عن الانقلاب تقع على عاتقه هو وكادير، وعندما حكمت عليه بالإعدام قال لرفاقه: “لقد فعلت ما فعلت من أجل موريتانيا وأنا غير نادم عليه، فأنا في سبيل وطني مقتنع بأي مصير ينتظرنني”. كان عشية إعدامه يغط في نوم عميق، فتعجب زملاؤه من رباطة جأشه. ويبدو أن الإيمان بالقدر كان سمة غالبة في محيطه، فقد اقترح البعض على أرملته، مانا منت احبيب، استجداء العفو عن زوجها لدى أحد المشايخ ذوي الحظوة عند هيداله، لكنها رفضت قائلة إن “هيداله لا يحيي ولا يميت” وإن “الأمر بيد الله” وإن “التاريخ لن يسجل أن أحدا ما شُفِّع في والد أبنائها”.
كما تنم ايضا الرسالة التي كتب لها ساعات قبل إعدامه عن عقيدة وايمان راسخ، وعن حضور لم يجعله ينسى ديونا لدى صاحب دكان بيع بالتقسيط، لم تكن تبلغ حسب بعض أقاربه ستين الف أوقية.. إلا أن الرسالة تأخرت كثيرا في الوصول لأرملته مانه بنت حبيب، التي لم تستلمها إلا بعد 25 عاما من كتابتها.

أما الملازم انيانك عيسى، الملقب صلاح، المعروف ب “انيانغ مصطفى” فقد كان من أبرز الانقلابيين، ويبدو أن إعجابه بولد بوسيف وعلاقته الحميمة به كانت الدافع وراء انضمامه لهم. فقد توطدت العلاقة بينهما عندما أوقع القائمون على المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة حيفا وظلما على انيانغ لم يجد من يرفع عنه الا المرحوم ولد بوسيف . الجميل الذي كان له وقع في نفس انيانغ مصطفي جعله يصرح مرة لأحد الضباط أن نفسه تهون لديه في فداء ولد بوسيف .

ويتردد أن انيانغ التحق بكادير في المغرب في 14 أغشت 1979 سعيا منه للانتقام لولد بوسيف الذي توفي قبل ذلك، في حادثة سقوط طائرته

أما الضابط الرابع الذي تم إعدامه فهو الملازم محمد ولد دودو سك الذي لم يحضر المحاكمة بسبب إصابته بجروح خطيرة يوم الانقلاب جعلته يخضع لعملية معقدة. عندما حُكِم عليه بالإعدام حضر عسكريون إلى المستشفى لانتزاعه من سرير المرض لتنفيذ الحكم عليه، فرفض الطبيب الفرنسي تسليمهم إفادة خروج له، فتدخلت السفارة الفرنسية واستبدلته بطبيب آخر قام بتسليمهم إياها. تم تنفيذ الحكم عليه وهو خارج للتو من غرفة العمليات لما تندمل جراحه بعد.

الخطيئة الأزلية

في العاشر من يوليو 1978 أطاح ما سمي يومها بـ “اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني”، بقيادة قائد أركان الجيش محمد المصطفى ولد محمد السالك، بالرئيس الموريتاني الأول المختار ولد داداه. كان تعيين كادير، الذي لم يشارك في الانقلاب ولم يكن عضوا في اللجنة، في منصب قائد الأركان الخاصة برئاسة الجمهورية، من أولى القرارات التي اتخذها الانقلابيون.

لا يتضح موقف كادير من هذا القرار الذي كان القصد منه -كما يبدو- تحجيم شخصيته من مظلي-طيار كانت تمتد طموحاته أبعد من الأفق الذي كان يمخره بطائراته إلى مجرد “ضابط مكتباتي”. و لكن يمكن افتراض أن كادير قبِل بذلك تحت تأثير الرجل النافذ في اللجنة حينها المقدم أحمد ولد بوسيف الذي كانت تربطه به علاقات حميمة، خصوصا أن ولد بوسيف كان يدرك مخاطر مواقفه وربما كان يدرك ضرورة البحث عن ملاك-حارس. وقد يكون سبب قبوله لهذا المنصب ايضا هو الصداقة الجيدة التي ربطته بولد أحمد لولي، والتي تجلت خاصة في رسالة استقالته التي قال فيها إنه على يقين من أن ولد أحمد لولي مستاء من الحملة التي يتعرض لها كادير…
أسفرت الحرب المعوية داخل اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني عن حل هذه اللجنة في السادس من إبريل 1979 واستبدالها باللجنة العسكرية للخلاص الوطني التي شارك فيها العقيد ولد عبد القادر لأول مرة؛ حيث شغل منصب الوزير المكلف بالأمانة الدائمة للجنة. لم يمض في المنصب سوى 5 أسابيع حتى قدم استقالته التي رفضها الوزير الأول ولد بوسيف الذي كان على موعد مع الموت بعد ذلك بأسبوعين نتيجة تحطم طائرة عسكرية كانت تقله إلى داكار.

بعد ذلك بيومين فقط تولى المقدم محمد خونه ولد هيداله زمام السلطة، بعد عمليات تنظيف داخلية كان ممن شملتهم حركة البعثيين الذين أرغموا على الانسحاب من الحكومة بعد “حملهم” على إذاعة القرآن الكريم عبر أثير إذاعة موريتانيا بسبب وفاة الزعيم الجزائري هواري بومدين رغم أن الدولة الموريتانية لمَّا تعلنْ آنذاك الحداد رسميا. والحقيقة أن مواقف أعضاء اللجنة العسكرية من الحرب ومن الحكم المطاح به عكست حالة “المداورة” التي عرفتها البلاد وكانت سببا رئيسيا للهزات العنيفة التي كادت تعصف بها.

في مرحلة أولى قام ولد هيداله بتوسيع تشكلة أعضاء اللجنة لتضم ضباطا له الفضل عليهم وهو ما كان يعني تمتعه بأغلبية مريحة سهلت له تمرير آرائه ورؤاه.

شغل كادير منصب وزير التعليم في الحكومة الجديدة، وهي هدية مسمومة من ولد هيداله الذي لا شك أنه كان يدرك أن خصومه صاروا يفكرون بصوت عال وأن تعيين كادير في منصب موغل في البيروقراطية (الوزارة) كفيل بـ “إبعاده”، خصوصا أن قطاع التعليم كان حينئذ يشكل أيقونة لكل الصراعات في البلد: صراع بين الإثنيات والقوميات، بين السياسيين لأدلجة الأدمغة الصغيرة، بين الإستراتيجيات التربوية، بين المستعربين والافرنكفونيين..
البركان يتشكل

… فجأة بثت إذاعة موريتانيا، في 17 يونيو 1979، خبرا مفاده أن كادير هرب إلى الخارج، وتبين لاحقا أنه توجه، رفقة ضابط الاتصال المغربي العقيد بن ميره، إلى السنغال، بعد تقديم استقالته لرئيس اللجنة العسكرية كتابيا، وهناك حصل من السفارة المغربية، في اليوم الموالي، على حق اللجوء السياسي بالمملكة العلوية، بعد أن وجد السفير المغربي السابق بموريتانيا، السنوسي، والمستشار الخاص للعاهل المغربي الحسن الثاني، في استقباله.

من الآن فصاعدا سينظر نظام ولد هيداله إلى محور الرباط-داكار على أنه محور شر.

قامت السلطات المغربية بإعداد سفره إلى المغرب الذي “جرى في ظروف مادية طيبة” واستقبله في المطار مدير الاتصال الخارجي بوزارة الداخلية الذي أنزله وعائلته في منزل يقع على بعد 15 كلم من الرباط ووفر له جميع وسائل الراحة، بما في ذلك طباخ ومشرف خاص على خدمات الضيافة وخدمات المنزل وسيارتان مع سائقيهما.

في 22 يونيو 1979 اجتمعت اللجنة العسكرية استثنائيا لدراسة الموقف وأعلنت “أنها أقصت ولد عبد القادر الذي فر بأملاكه وأسرته عندما تأكد من وجود أدلة قاطعة ضده تتعلق باختلاس الأموال العامة”. رد كادير على هذه الاتهامات في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية قال فيه إنه لم يسبق له تسيير الأموال العامة واصفا إياها بأنها مجرد تصفية حسابات سياسية، مستشهدا بشهادات بعض رؤسائه ومرؤوسيه السابقين.

بعد 5 أشهر من مقام العقيد كادير في الرباط استقبله العاهل المغربي الذي رحب به وقال له أن يعتبر نفسه في وطنه، ووضع تحت تصرفه مسؤولين اثنين في المخابرات هما بن سليمان وحمودي اللذين اتفقا معه على ضرورة إنشاء تنظيم معارض لنظام ولد هيداله.

قبل ذلك وقّعت موريتانيا والبوليساريو، في 5 أغشت 1979، في الجزائر على اتفاق سلام. اقتضت بنوده المعلنة الإبقاء على القوات في أماكنها، بينما اقتضى بند سري تسليم المواقع الواقعة تحت سيطرة موريتانيا إلى البوليساريو في ظرف 7 أشهر. لاحقا ستكتشف فرنسا أمر البند السري وتبلغه للمغرب الذي سيبادر بالاستيلاء على المناطق المعنية به.

الانقلاب على “السلام”
بعيد التوقيع على الاتفاق قام ولد هيداله بزيارة للمغرب لتفسير الطعنة التي وجهها له في الظهر. تزامنا مع هذه الزيارة أعلن كادير عن تأسيس “الجبهة الإسلامية الديمقراطية الموريتانية” وجناحها العسكري “لجنة الضباط الأحرار”. اختزلت هذه التسمية أيديولوجيا المنشقين: فالإسلاميون كانوا حينها الابن المدلل للعرش المغربي الذي كان يستغلهم لضرب اليساريين، و”الضباط الأحرار” في مصر كانوا يشكلون المثل الأعلى للكثير من العسكريين العرب.

لم يرُقْ للمسؤولين الموريتانيين إردافُ وسائل الإعلام لخبر زيارة ولد هيداله للمغرب بخبر إنشاء تنظيم ضده، خصوصا أن الصحافة المغربية تعمدت نشر تصريحات أعضاء التنظيم وبياناتهم كاملة مع التباهي برتب العسكريين منهم. وبالتعاون مع المخابرات المغربية اكتتب كادير 10 ضباط وضباط صف موريتانيين أرسلهم إلى المغرب.

في 27 مايو 1980 أعلن، من باريس، مناوئون لنظام ولد هيداله، وفي طليعتهم “الميثاقيون” و”الجبهة الإسلامية الديمقراطية الموريتانية” وجناحها العسكري عن تأسيس “التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية (AMD)” الذي تضمن إعلانه أن “السبيل الوحيد لإنقاذ موريتانيا يمر حتما بعودة الجنود إلى ثكناتهم”.

رد نظام ولد هيداله على هذه الطعنة في خاصرته بفتح قضية قضائية أمام محكمة العدل الخاصة (محكمة عسكرية) ضد الرئيس الأسبق المختار ولد داداه وكادير وآخرين. حكمت المحكمة، يوم 21 نوفمبر 1980، على الأول بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة وعلى الثاني بالإعدام.

يمكن القول الآن إن الأطراف وصلت إلى نقطة اللاعودة.

كانت العلاقات الموريتانية-المغربية تشهد أسوأ فتراتها: قام هيداله بطرد المغاربة من بلاده. قطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. فشلت مساعي السعودية لإعادة الدفء لها. لم يفلح “لقاء الطائف” الذي اكتفى بكسر الجليد عنها وبإعادة العلاقات الدبلوماسية الرسمية.
شهد شهر مارس 1981 حربا إعلامية بين البلدين، تكللت ببيان صادر عن مجلس الوزراء الموريتاني يوم 12 مارس 1981 قال فيه إن الوزير الأول سيد أحمد ولد ابنيجارة قدم عرضا “عن الوضع الناجم عن حملة الافتراءات الموجهة لبلادنا منذ عدة أيام من طرف الصحافة الناطقة باسم المملكة المغربية و(عن) نوايا الملك الحسن الثاني الأكيدة من شن عدوان ضد موريتانيا”. البيان قام بتحذير “المغرب من مغبة أي مغامرة طائشة سيتحمل وحده تبعاتها ولن تؤدي إلا إلى إشعال النار في جميع أرجاء المنطقة وستكون نتائجها خطيرة بالنسبة للمغرب العربي وإفريقيا والسلام العالمي”.
بادر الوزير الأول المغربي بإصدار بيان في الساعات الأولى من اليوم الموالي قام فيه بتفنيد “المزاعم الموريتانية”. وفي يوم 14 مارس أدلى وزير الخارجية المغربي محمد بوسته لإذاعة فرنسا الدولية بتصريح قال فيه: “إن المغرب لن يبقى مكتوف الأيدي إزاء هذا الوضع” وأردف أنه “ليست لدى (المغرب) أية نوايا في التدخل في شؤون موريتانيا”.

 

رافعة الشاحنة شغالة

تزامنا مع ذلك كان الغول يزحف نحو انواكشوط. كان الكوماندوز قد خضع قبل ذلك لتدريب عسكري مكثف في قاعدة بن اغرير العسكرية قرب مراكش دام ثلاثة أشهر وأشرف عليه ضباط مغاربة متخصصون من اللواء المغربي السادس ومن الهندسة العسكرية، وتولى تأطيرهم كل من النقيب الشرقاوي، الملازم علال، والرقيب طيبي، والرقيب روبيي.

بعد التدريب غادر الانقلابيون، وهم يحملون جوازات سفر مغربية تسلمها منهم بن سليمان في داكار، في ثلاث مجموعات يقود كلا منها ضابط مغربي. وصل كادير داكار عن طريق جنيف يوم 26 فبراير 1981، والتحق به الأفراد الآخرون عن طريق باريس في الفترة مابين 12-14 مارس. كان في استقبالهم كل من بن سليمان وحمودي اللذيْن نقلاهما في سيارتين من طراز “بي أم دوبل في” إلى نقطة تبعد 6 كلم جنوب مدينة سان لويس (انْدَرْ) السنغالية؛ حيث كان رجل الأعمال الموريتاني، حابه ولد محمد فال، مكلفا بنقلهم في سيارة شحن من طراز بيجو 404 إلى نقطة التجمع وهي عبارة عن مخيم أعد سابقا وأودعت فيه أسلحة وذخيرة كان قد تم نقلها في حقائب دبلوماسية مغربية على متن الجوية الملكية المغربية.

أعطيت التعليمات ووزع المهام كل من كادير وولد سيدي وولد محمد فال، الذي حرص تقرير الرئاسة عن المحاولة الانقلابية على وصفه بـ “التاجر” بدل “رجل الأعمال”.
في الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 15 مارس 1981 غادر الكوماندوز نقطة التجمع على متن سيارتي شحن من طراز 404 -504 ووصل في الساعة السابعة إلى ضفة النهر السنغالي وكان في انتظاره في الضفة الموريتانية سيارتا لاند روفير أعدهما ولد محمد فال. استقل السيارةَ الأولى كادير وانيانغ مصطفى وابراهيم ولد اعلي واسماعيل ولد محمدو ويعقوب ولد اشفاغ العالم، بينما استقل الثانيةَ كل من ولد سيدي وولد دودو سك وابراهيم فال ولد عيدلها وأحمد ولد انديات والداه ولد محمد لعبيد.

وكان القائم علي السيارات ولوازمها ابن عم حابه ولد محمد فال وأحد عماله: محمد الامين ولد محم.

في الساعة التاسعة والنصف مساء أخذت المجموعة طريقها إلى انواكشوط مرورا باركيز فبوتلميت. وصلت توجنين عند الساعة السادسة صباحا، توقفت ثلاث ساعات ونصفا جنوب الهندسة العسكرية لتناول الشاي وتنظيف الأسلحة والقيام بالتنسيقات الأخيرة قبل أن تتحرك نحو الهدف.

وفتح الجحيم ابوابه..!

بحسب اعترافات كادير، فإن العملية بدأت العاشرة صباحا. لم يطلع ولد سيدي على تفاصيل العملية إلا في اللحظات الأخيرة وإن كان يعرف أن الهدف هو الإطاحة بالنظام وأن كادير هو القائد وأنه-هو نفسه- المساعد.

كانت الخطة الرئيسية تتضمن اعتقال أعضاء اللجنة التي كان من المفترض أنها ستجتمع هذا اليوم، وإن حكى ولد هيداله أنها كانت تتضمن “القضاء على أعضاء اللجنة ورئيس الحكومة وأعوانه كخطوة أولى وفي الخطوة الثانية الاستيلاء على قيادة الجيش والإذاعة وإذاعة البيان”. بينما اقتضت الخطة البديلة، التي يتم تنفيذها في حال عدم اجتماع اللجنة، أن يتوجه فريق كادير إلى الرئاسة ويعتقل ولد هيداله ويحتل قاعة الاجتماعات بينما يقوم فريق ولد سيدي باعتقال ولد ابنيجاره وجلبه إلى القصر الرئاسي، وأخذ الرأسين كرهينة للتفاوض عليه مع العسكريين الآخرين لضمهم، ثم تتم السيطرة على قيادة الجيش والإذاعة وينشر البيان الذي قال عنه ولد هيداله إنه لو أذيع “فإنه يمثل الإشارة المنتظرة لتدخل الجيش المغربي”.

تفاجأ الكوماندوز بعدم انعقاد اجتماع اللجنة وبعدم وجود أي أثر للهدفين (ولد هيداله وولد ابنيجاره). انتقلوا تلقائيا إلى المرحلة الثانية. بقي ولد انديات وولد دودو سك وولد اعلي وولد محمد لعبيد في الرئاسة وتوجه الباقون نحو قيادة الأركان. بدأ كادير بحشد تأييد الضباط تحت التهديد والتوعد والكلام النابي أحيانا، واقتحم ولد سيدي وولد عيدلها مكتب قائد الأركان، المقدم معاوية ولد سيدي أحمد الطايع. وجه ولد سيدي اتهاما لولد الطايع بخيانة موريتانيا بتعاونه مع هيداله، فرد عليه ولد الطايع بأنه لم يكن لديه خيار. تمت السيطرة على ولد الطايع وحوالي عشرة ضباط آخرين من بينهم الرئيس اللاحق للجمهورية المقدم اعل ولد محمد فال.
توجه ولد سيدي وانيانغ وآخران إلى الإذاعة لتلاوة البيان رقم 1. وجد ولد سيدي أحد الصحفيين في أحد المكاتب فخاطبه: يا فلان، ويبدو أن الزميل الذي أفقدته المفاجأة إدراكه نسي اسمه الشخصي فبادر بسؤاله إن كان يعنيه هو، فأجابه نعم أعنيك أنت ألست فلانا (وسماه باسمه) ؟ فأجابه الصحفي: بلى أعتقد أني فلان… انفجر ولد سيدي ضاحكا. اكتفى فنيون في الإذاعة بتشغيل البث الداخلي، فتلا ولد سيدي البيان وهو يظن أن البث الخارجي مشغل، وبذلك أنقذ فنييوا الاذاعة نظام ولد هيدالة.

أما كادير فقد أخذ ولد الطايع وولد عيدله وهموا بمغادرة قيادة الأركان نحو المنطقة العسكرية السادسة، إلا أنهم فوجئوا فور خروجهم منها بوابل من النيران فعادوا أدراجهم وأصيب ولد الطايع بجروح في جناحه. وجه له كادير أمرا بأن يتصل بسفير فرنسا بانواكشوط ويخبره أنه رهينة لدى كوماندوز مسلح قام بانقلاب ناجح وأن ولد هيداله هرب إلى جهة مجهولة ويطلب من فرنسا عدم التدخل. امتثل ولد الطايع، بيد أن السفير ماطله بذهاء وقال له إن فرنسا ستوافيه بجواب إيجابي بعد ساعة.
قامت وحدات من الجيش بإطلاق كثيف للنيران ومسيلات الدموع عبر نافذة مكتب قائد الأركان، فهمّ كادير وولد الطايع وولد عيدله بالذهاب ثانية إلى المنطقة العسكرية السادسة.

طوَّق المقدم اعل ولد محمد فال العقيد كادير محاولا انتزاع سلاحه منه، فالتف عليه الأخير بحركة أوراكن دائرية ورماه بعيدا وقال له: أتحسب أن ضابطا صغيرا في مثل سنك يمكن أن ينتزع سلاح عقيد في مثل سني ؟ همّ انقلابيون بإطلاق النار على ولد محمد فال لكن كادير نهرهم كما نهر ولد سيدي انقلابيين آخرين في الإذاعة هموا بإطلاق النار على موالين للنظام.

دخل الانقلابيون في اشتباك مع النظاميين مما جعل الدخان داخل مكتب القائد يحجب الرؤية. استغل ولد الطايع الفرصة وقفز من النافذة، وبدا أن كادير تأكد بذلك من الفشل النهائي للانقلاب. عند انفلات الفريسة من مخلب الصقر.. قامت الوحدات النظامية بإطلاق قذيفة ضخمة على المكتب أشعلته ولم يبق لكادير وزملائه سوى الاستسلام.

بعد ساعات من المحاولة الانقلابية ألقى الوزير الأول ولد ابنيجاره خطابا نسبها فيه إلى كادير وولد سيدي اللذين وصفهما بأنهما “إرهابيان”، “شكلا كوماندوزا انتحاريا للاستيلاء على السلطة والإطاحة بنظامنا” تنفيذا لـ “أوامر من أسيادهم المغاربة”.

لماذا فشل الانقلاب ؟

لا شك أن لفشل انقلاب 16 مارس أكثر من سبب، ليس أقلها أهمية وقوفُ الجزائر القوي إلى جانب حليفها هيداله، وعدم وجود جبهة داخلية موالية، وإنزال الانقلابيين؛ بمعنى أنهم ما كانوا يتقلدون مهاما رسمية تتيح لهم إنشاء جبهة داخلية ولو في الوقت بدل الضائع.

كما يبدو أن الجزائر، التي علمت بالمحاولة عن طريق الضابط المغربي الدليمي المعروف بمعارضته لنظام الحسن الثاني، أعلمت الرئيس هيداله بالمحاولة الانقلابية وتاريخها دون إعطائه المعلومات الدقيقة التي لم تكن قد حصلت عليها. اعتقد الجميع أن الأمر يتعلق بمحاولة انقلابية واسعة ستأخذ شكل تمرد أو سلسلة تمردات متزامنة وأن صدها يتطلب مناورة كبيرة، فقاموا، نظرا لضيق الوقت، بـ “تهريب” الرئيس إلى افديريك لإعادة ترتيب الأوراق وصد قوات مغربية قد تحتل موريتانيا – أو أجزاء منها – عند ساعة الصفر (قال أحد الانقلابيين إن المحققين لم يكفوا عن سؤالهم عما إذا كان برفقتهم قوات مغربية). ولهذا لم يجد الانقلابيون مقاومة في الساعات الأولى لاعتقاد النظاميين أن الأمر
يتعلق بعملية واسعة النطاق، في حين استماتوا في الدفاع عندما أدركوا أن الأمر لا يعدو كونه تصرفات “هواة”.

هل كان في اللجنة طابور خامس ؟

رغم فشلها الحتمي بسبب طابعها الارتجالي، فإن السؤال الذي يطرحه أي مراقب سياسي في مثل هذه الظروف هو: هل كان الكوماندوز يعتمد، داخل النظام، على طابور خامس جبُن أخيرا عندما علم أن ولد هيداله لم يتم التخلص منه وأنه سيأتيهم من حيث لا يحتسبون ؟

من المعروف أن النقيب ابريكه ولد امبارك، وكان عضوا في اللجنة العسكرية، صرح أن بعض أعضاء اللجنة، وخاصة الرئيس الأسبق ولد الطايع والعقيدين ولد معيوف وولد لكحل، لم يرُقْ لهم تصويته- أي ولد امبارك – ضد إعدام كادير ورفاقه وأن هذا التصويت جعلهم يبعدونه عن الواجهة وعن مراكز اتخاذ القرارات. ومن المعروف كذلك أن الانقلابيين كانوا ينوون تعيين العقيد فياه ولد معيوف رئيسا للجمهورية. فهل يعقل أن يضحي هؤلاء بأنفسهم ثم يقومون بمنح المكاسب لرجل آخر ليس شريكا لهم ؟

تقول مصادر فاعلة في هذه المحاولة إن هؤلاء الضباط وآخرين معهم كانوا على تنسيق جيد مع كوماندوز كادير وإنهم اتفقوا وإياهم على الانضمام إليهم بعد السيطرة على الوضع كما اتفقوا معهم على تعيين ولد معيوف رئيسا للبلاد، وهو ما جعلهم، وهم مقربون جدا من ولد هيداله، يقنعونه بتسريع إعدامهم حتى لا يقومون بإفشاء سر علاقتهم بهم. ويدعم ما ذهبت إليه هذه المصادر كون العقيد كادير وجد فرصة سانحة لتصفية بعض هؤلاء الضباط ولم يفعل.

معروف كذلك أن قائد الجيش حينها، المقدم معاوية ولد سيد احمد الطايع، كان على علاقة وطيدة بكادير وكانا يتبادلان الزيارات العائلية، وتجسدت الحميمية بينهما بشكل واضح في الزيارات المتعددة التي قام بها كادير لعقيلة ولد الطايع، الراحلة سادية كامل، عندما كانت تتواجد في باريس للعلاج أياما قليلة قبل 16 مارس، وذلك رغم بعد الشقة المفترض بينهما. ولا تستبعد مصادرنا أن تكون عقيلة ولد الطايع الراحلة، المعروفة بنفوذها وسلطتها عليه، لعبت دور الوسيط بين كادير وولد الطايع لجره للانضمام إلى الانقلابيين، وقد تكون تلقت منه إشارات رضى ربما نقلتها إلى كادير الذي قد يكون حدَّد على أساسها ساعة الصفر.

إن مصلحة ولد الطايع، المعروف بدهائه ومكره السياسي، كانت تملي عليه حينها إرسال إشارة رضى لكادير للاستفادة من أي سيناريو سيتحقق. فباستدراجه له يقدم خدمة كبيرة للنظام (أقل المهاجمين خطرا القريب جدا من هدفه) وبتضخيم الخطر الداهم والحالّ سيأخذ ولد هيداله حذره وتمر المحاولة عليه بردا وسلاما. فإذا اتضح لولد الطايع نجاح الانقلاب فمن السهل عليه الالتفاف على تعيين ولد معيوف ليحل محله، اما إذا تبين له عدم انسجام الانقلابيين فمن السهل عليه إقناع ولد هيداله بأنه من أجهض المحاولة، وضغط عليه لإعدام “مرتزقة الرباط”، واتخذ من الهاجس الأمني ذريعة لتطويق ولد هيداله ثم الانقلاب عليه.
تشير الأحداث إلى تبني هذه الإستراتيجية؛ إذ أعدم الانقلابيون بسرعة قياسية وأصبح ولد هيداله- كما صرح هو نفسه بذلك- مختل التوازن، ينظر للأمور بريبة غير مبررة ومن زاوية أمنية بحتة، الأمر الذي أفقده القدرة على تقدير المواقف المناسبة من القضايا السياسية والأمنية وحتى الاقتصادية. خصوصا أن ولد هيداله صرح كذلك أنه يعتبر أنه سقط يوم 16 مارس 1981، وإن كان المسمار الأخير في نعش نظامه دقه الرئيس ولد الطايع يوم 12 دجمبر 1984.

ونفس الإستراتيجية قام بتطبيقها من انقلبوا على ولد الطايع عندما قاموا بتطويقه بعد إنقاذهم إياه من محاولتي يونيو 2003 وأغشت 2004 اللتين جعلتاه يفقد توازنه ويشك في كل شيء. ولا شك أن قيامه شخصيا، عندما كان يحضر مؤتمر الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، وبشكل مفاجئ، بالاطلاع على الإجراءات المتخذة لتوفير الأمن لقادة أركان دول الساحل المجتمعين في قصر المؤتمرات بانواكشوط في يوليو 2005 (أي بعيد عملية لمغيطي) عكَس – بصدق – الهاجس الأمني لديه وشكل توبيخا للقادة الأمنيين، وخاصة لقائد كتيبة الأمن الرئاسي (المسؤولة عن أمن قصر المؤتمرات) وللمدير العام للأمن الوطني (المسؤول عن أمن البلاد) اللذين سيكونان في طليعة المنقلبين عليه يوم 03 أغشت 2005.

التحقيق بالتعاون بين صحيفة تقدمي الالكترونية وصحيفة الخبر وموقع القافلة الإخباري

شاهد أيضاً

فتح باب التبادلات أمام المدرسين الراغبين في ذلك

أعلنت وزارة التربية وإصلاح النظام التعليمي صباح اليوم الثلاثاء عن فتح باب التبادلات أمام المدرسين …