لم تدم طويلا الهدنة بين عمال “اسنيم” والإدارة، وعادت المواجهة بين الطرفين من جديد في ساحات مدينة المناجم أزويرات، عندما قرر العمال التوقف عن العمل والاحتشاد في الشارع لإرغام الشركة على تحقيق مطلبهم الرئيسي المتمثل في زيادة الأجور ومنحهم نسبة من الأرباح كما تعهدت بذلك سابقا.
ويبدو أن الزيادة التي أعلنتها الحكومة لرواتب العمال والموظفين العموميين أيقظت في نفوس عمال جذوة النضال من جديد والتحرك هم كذلك طلبا للزيادة متسلحين لهذه المطالب ببنود اتفاق مايو الموقع برعاية عدة جهات حكومية وتحت سمع وناظري الإدارة الإقليمية، خصوصا أن بعض البنود التي ينص عليها الاتفاق ذاته والتي تعني حصول العمال على نسبة من الأرباح خيبت آمال العمال وجعلتهم يتحركون للحيلولة دون أن تفسر الإدارة الزيادة المعتبرة وفق ما ينحي بهذه الزيادة منحى الحصة من الربح التي لم تتعدى الـ1,8 بالمائة من رواتب هؤلاء العمال.
عودة العمال إلى الشارع ورفع عقيرة النضال لفرض تطبيق للاتفاق كانت في ظرف غير مناسبة لشركة “اسنيم”، بحسب ما تورده الشركة في ردودها على العمال حيث تراجع سعر الخام في الأسواق الدولية إلى يناهز الـ50 بالمائة من السعر الذي ساد العمل به منذ 2010، بالأضافة إلى ما يراه محللين اقتصاديين من عوامل أخرى يمكن أن تكون مبررا للشركة للنكوص عن تعهدها ومن هذه العوامل ضغوط الدولة على هذه الشركة للمساهمة في الاقتصاد الوطني الذي يعاني كذلك من الآثار السلبية لانخفاض أسعار بقية الموارد الطبيعية كالذهب والنفط، في الأسواق الدولية الذي ينتظر أن تمس تداعياته حصص موريتانيا من المساعدات والدعم المالي الذي تعودت أن تتلقاه من بعض البلدان البترولية الشقيقة. وذلك في وقت فشلت فيه المفاوضات بين موريتانيا وأوروبا حول قطاع الصيد مما يحرم موريتانيا من أكثر 100 مليون يورو كان يفترض أن تدخل الميزانية هذه السنة. إذا استمر الجانبان الموريتاني والأوروبي في رفض التوقيع على اتفاق جديد.
ما بين تذمر العمال من تنكر إدارة (اسنيم) لما ورد في مضمون الاتفاق الأخير معهم، ورغبتهم في الحصول على زيادة في الأجور تعوض احتمالات ارتفاع الأسعار المتوقعة هذا العام بسبب الضرائب المستحدثة على بعض المواد الغذائية وبعض الكماليات، تتجه الأزمة بين العمال و(اسنيم) إلى مزيد من التصعيد، ما لم تنجح المساعي الحميدة المقام بها حاليا لإنهاء هذا الإشكال، وهي ازمة تفرز اصطفافا ثنائيا يحشر الدولة والحكومة إلى جانب إدارة “أسنيم”، ما قد يشجعها على اتخاذ إجراءات رادعة ضد قيادات الإضراب الجديد، وهو ما بدأت بوادره بالفعل من خلال الحديث عن إجراءات فصل محتملة ضد بعض عمال اسنيم، في حين بدأت المركزيات النقابية بالاصطفاف خلف منتسبيها من عمال (اسنيم) من خلال كم البيانات والخرجات الإعلامية المساندة لنضال هؤلاء العمال.
بداية التصعيد..
تعود جذور وأسباب الإضراب الحالي إلى ما يراه العمال تلكؤا في تطبيق الشركة لبنود اتفاق شهر مايو 2014، وهو الاتفاق الذي جرى التمهيد له من خلال ثلاثة أيام من المفاوضات بين مناديب عمال الشركة في كل من أزويرات وأنواذيبو وممثلين عن الإدارة، توصلوا خلاله على اتفاق برعاية وضمانة من الجهات الحكومية الوصية من قطاع المعادن وقطاع العمل والوظيفة العمومية.
وتنص بنود الاتفاق على مجموعة من النقاط من أبرزها منح نسبة من أرباح الشركة قيمتها أجور شهرين أو ثلاثة عندما ينعقد مجلس إدارة الشركة في دورتها السنوية، بالإضافة إلى نسبة من مبيعات الشركة التي كان يفترض أن يتلقاها العمال كل سنة في حالة تحقيق ربح معتبر، هذا بالإضافة إلى زيادة معتبرة للأجور.
لكن مفاجئة العمال بحسب مصدر نقابي تحدث إلى جريدة “صوت العمال” كان في نتائج إجتماع مجلس إدارة الشركة التي راهنوا عليه طيلة سبعة أشهر من الانتظار والترقب حيث انفض هذا الاجتماع دون تنفيذ لما تعهدت به الشركة للعمال من التزامات نص عليه اتفاق مايو. وأبلغوا من طرف الشركة بأنها لم تعد مستعدة لتحقيق هذه التعهدات.
كان تحرك مناديب العمال لرفض هذا النكوص بالتعهدات والمواثيق ـ بحسب مصدر في النقابات العماليةـ من خلال إرسال رسالة إلى الإدارة العامة يذكرونها فيها بهذه المطالب ويؤكدون فيها تشبثهم بها، واستعدادهم للحوار حولها من جديد.
لكن الإدارة رفضت التحاور مع 14 مندوبا عماليا في أزويرات، متعذرة باعتراضها على رسالة المناديب شكلا ومضمونا، فمن الناحية الشكلية تعتبر الإدارة أن الرسالة التي بعث بها العمال تحمل ضمنيا تهديدا للإدارة، أما من ناحية المضمون فإنها تعتبر أن الشركة غير قادرة على تنفيذ هذه التعهدات في ظل الظرفية التي تعشيها مداخيل الشركة حاليا بسبب تراجع أسعار الحديد في الأسواق العالمية، والتي أدت إلى خسارة ثلثي الإرادات التي كان تكسبها سنويا من عائدات مبيعات الحديد.
رد العمال على مبررات الشركة حول رفض تنفيذ التعهدات كان من خلال نفي هذه المبررات، معتبرين أنهم الأكثر معرفة بما يجري في الشركة بحكم عملهم فيها اطلاعهم على كل شاردة وواردة فيها كما يقولون. فهم يعرفون حقيقة مداخليها وأرباحها السنوية أكثر من غيرهم وأن ما تتذرع به الإدارة لا ينطلي إلا على من هم خارج الشركة، وهدفه الأساسي المغالطات والتملص من تنفيذ الالتزامات واستحقاقات اتفاق مايو الماضي.
فالشركة برأي العمال ما زالت تحقق الأرباح الطائلة ولا تعاني من أي مصاعب مالية من شأنها أن تؤثر على تحقيقها لمطالب العمال التي تبقى في حد ذاتها زهيدة نسبيا بالمقارنة مع حجم الموارد التي تمتلكها الشركة، وتوجهها إلى وجهة أخرى ليس لها علاقة باهتمامات الشركة التي يفترض أن تكون في أولوياتها، وأجندتها الداخلية.
واتهم مناديب وعمال الشركة الإدارة بعدم الجدية أصلا في تنفيذ اتفاق مايو وهذا ما جعلها تتهرب في أول استحقاقاته المتعلقة بزيادة أجور العمال وحصولهم على حقوقهم المشروعة في أرباح الشركة التي أخذت منهم عرق جبينهم وصحتهم وزهرة شبابهم، وإنما كان الهدف الأساسي من توقيع ذلك الاتفاق بحسب العمال من طرف إدارة الشركة لأسباب لها علاقة بالظرفية السياسية التي كانت سائدة إبان تلك الفترة والمتعلقة بفترة الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية التي كانت على الأبواب في تلك الفترة ولذلك جرى استخدام هذا الاتفاق لتحقيق أغراض انتخابية وعندما انتهت تلك المرحلة كان الشركة في حل منه، معرضة حقوق العمال وطموحهم المشروع في تحسين ظروفهم نحو الأفضل في مهب الريح.
لكن العمال يضيفون أسبابا أخرى ربما تكون أكثر تبريرا لدعوى الشركة بقصر ذات اليد في وعدم وجود الموارد الكافية لزيادة أجور العمال ومنحهم العلاوات التي يستحقونها، وهنا يورد العمال الدور المشبوه “لخيرية أسنيم” في استحواذ على اهتمامات وأولويات الشركة، وحصولها على الامتيازات والموارد المالية الطائلة التي كان يفترض أن توجه إلى العمال، بدل صرفها على هيئة يتهمونها بممارسة العمال السياسي في ثوب اجتماعي، بعيدا كل البعد عن أهداف الشركة الاجتماعية التي يفترض أن تقوما بها الشركات والمؤسسات الكبيرة التي تمنح عمالها الأولوية.
ويرى العمال أن الشركة أن صبحت “مختطفة” من طرف “الهيئة الخيرية” توجه إليها مواردها وتستنزفها ماليا بدل الاهتمام بعمالها، مستغربين توجيه أموال الهيئة وأنفاقها في مجالات ليست لها علاقة حتى بالعمل الخيري والاجتماعي. وهي مآخذ يرجعها العمال إلىما يعتبرون سوء تسيير الإدارة الحالية ل”أسنيم” وهو التفسير ذاته لدى العمال ما يعانونه الآن من سوء أوضاعهم المعيشية والمخاطر المحدقة بهم ويدفع بهم نحو الإضراب وتأزيم الوضع العام للشركة.
قدامى النقابيين يرون في تصريحات لصحيفة “ًصوت العمال” في تعقبيهم على الإضراب الحالي أن مزاعم الشركة بمحدودية الموارد غير مقنع، لأن الشركة اعتادت على تحقيق أرباح خيالية سنوية، وهو ما كان يجعل العمال ينتزعون منها بعض المكاسب المحدودة إلا أن مزاعم الشركة حاليا بالخسارة غير صحيحة، ولكن الصحيح والمعقول أن تكون هناك نقص محدود في الأرباح مقارنة بالوضع التي تعودت عليه خلال السنوات الماضية لكن ذلك النقص لا يؤثر على إمكانيات الشركة في حالة ما إذا كانت جادة في تحقيق مطالب العمال، واعتبر بعض النقابيين أن الشركة لم تعرف نقصا حادا في الأسعار وإنما نقصت الكميات الكبيرة للمبيعات، وجرى ذلك فقط في النص الثاني من 2014، وهذا ما يعني في نظر النقابيين أن حديث اسنيم عن عجزها مبالغ فيه لغايات مقصودة. معتبرين أن أرباح الشركة لا تزال معتبرة، وأن المشكلة ليست في محدودية الموارد وإنما في إعادة توجيه هذه الموارد نحو ما تسمى “الخيرية”، التي يلاحظ العمال أنها أصبحت تبني المدارس والمنازل في مناطق متعددة دون أن تكون ضرورة لها في بعض الأحيان ودون أن تكون أولوية قصوى في حين تتجاهل الشركة المطالب المشروعة للعمال في تحسين الظروف الحياتية وهم الذين يعانون الأمرين من خلال الأعمال المرهقة التي يبذلونها لصالح شركة تضرب إدارتها عرض الحائط وتتعنت في مواجهة استحقاقات اتفاق مضمون بقوة القانون وعدالة المطالب. ويستغرب النقابيون غياب الجهة التي يفترض أن تكون ضامنة للاتفاق وهي الدولة والراعية لتطبيقه خصوصا قطاع العمل.
أين النقابات؟
في ظل هذه المواجهة المفتوحة بين العمال ومناديبهم من جهة وإدارة الشركة من جهة أخرى برز دور النقابات التي كان نضالها ودورها دائما الضامن لتحقيق مطالب العمال وحمايتهم من ظلم الشركات.
وهكذا جاء دور النقابات المساند لحركة الإضراب الجديد لعمال “أسنيم” مآزرا وساندا لهذه الحركة المطلبية من خلال عدة اجتماعات لمجالس إدارة وتسيير هذه النقابات، وهذا ما كان يلعب دورا مهما في حجم التجاوب مع الإضراب الحالي الذي قدرته مصادر نقابية لصحفية “صوت العمال” بحوالي 90 بالمائة وبمشاركة جميع النقابات تقريبا. وهو ما جعل العمال يكرسون نضالهم ومن ورائهم النقابات حول هدف واحد وهو تحقيق مطالب العمال المتمثلة في حمل الشركة الوطنية للصناعة والمناجم على تنفيذ ما وقعت عليه من التزامات وعهود.
وعلى ذات الشاكلة من الاستعداد للنضال من أجل تحقيق هذه المطالب لم تتخلف نقابات عمال “أسنيم” نواذيبو عن الدور المنوط بها من أجل مآزرة عمال في أهدافهم المشروعة أسوة بنظرائهم في “أسنيم” أزويرات، الذي باشروا بالفعل النهج النضالي للتحقيق هذه الأهداف من خلال الشروع في تنفيذ الإضراب، وهو ما جعل عمال أنواذيبو يبدأون هم ذاتهم حراكا نضاليا تدريجيا يرغم الشركة على الوفاء بتعهداتها. وربما من حسن حظ عمال أسنيم أنواذيبو حصولهم على تجاوب بالحوار مع من طرف إدارة إسنيم أنواذيبو لكن ذلك لن يقف عائقا دون الشروع في الخطوات التصعيدية إذا لم تكن هناك الموافقة على هذه المطالب المشروعة.
وتنتقد النقابات العمالية في تصريحات لجريدة “ًصوت العمال” الطريقة المتبعة حاليا في التعاطي مع إضراب العمال والتي تتسم باللامبالاة والنزعة نحو استخدام العنف من طرف الأمن معتبرين أن ذلك لا يؤدي إلى إيجاد تسوية للمشكلة، وإنما من ِشأنه أن يزيد الأمور تعقيدا معتبرين أن الطريق الأمثل والمنهجية الأسلم للتعاطي مع مطالب العمال هي بفتح مفاوضات جدية تفضي إلى عودة الشركة إلى صوابها وتنفيذها لما نص عليه أتفاق مايو 2014.
نقلا عن أسبوعية “صوت العمال” العدد 385 بتاريخ 04 فبراير 2015