ترتكز الحالة الصوفية في موريتانيا على ثلاث طرق أساسية؛ القادرية نسبة إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني، والشاذلية نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي، والتيجانية نسبة إلى الشيخ أبي العباس أحمد التيجاني، ثم الطريقة “الغظفية” المنسوبة إلى الشيخ محمد الأغظف الداودي والتي تعتمد المزج بين الطريقتين الشاذلية والقادرية معًا.
وقد ارتبطت الطريقة الأخيرة بمقاومة المستعمِر، حيث أن من أتباعها البارزين المجاهد الشريف سيدي ولد مولاي الزين، الذي تسلل في ليلة الأربعاء 12 مايو 1905 مع مجموعة من شجعان قبيلة إديشلي إلى داخل الحامية العسكرية الفرنسية بتجكجة، عاصمة ولاية تكانت وسط البلاد، حيث كان يقيم كزافييه كابولاني القائد الفعلي للبلاد في تلك الفترة وقائد القوات الفرنسية التي احتلت موريتانيا.
ودخلوا معهم في اشتباك كان من نتيجته أن أصيب كبلاني برصاصتين إحداهما كسرت ذراعه الأيمن والثانية استقرت في صدره فسقط ميتا. كما قتل سيدي بن مولاي الزين برصاصة من الضابط الفرنسي أتيفو، وقد استمر هذا الاشتباك المثير خمس دقائق فقط كان من نتائجه مقتل القائد الفرنسي و4 من حاميته وجرح 10 منها أيضا بالإضافة إلى مقتل 5 من المهاجمين. وقد أضيف إلى هؤلاء جريح سادس وجد في قصر البركة تم إعدامه لاحقا.
تاريخ متصل بالراهن
من الطريقة الغظفية ينحدر الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، وإلى جانب أنه قائد عسكري تولى مسؤوليات كبيرة كوزارة الدفاع وقيادة الأركان، من أسرة صوفية عريقة، عرفت بأنها كانت دائما مصدر المشايخ والمريدين للطريقة الغظفية التي تمثل مزيجًا بين الطريقة القادرية والطريقة الشاذلية، وقد عرفت التركيز على العمل والإنتاج والتقشف والجَلَد، ثم على الجانب الإجتماعي.
ومن أقطاب الطريقة الأفذاذ الذين تداولوا على مشيختها الشيخ محمد الأغظف الداودي الحوضي، الذي أخذت تسميتها منه، وقد ولد في العام 1838 بمنطقة الحوض حيث تلقى تعليمه المحظري في علوم القرآن عند أهله من قبيلة الوسرة، قبل أن ينتقل إلى مدينة ولاته المتاخمة للحدود مع مالي لدراسة الفقه على يد خاله أحمدو ولد عبدالمالك الولاتي، ثم تابع دراسته العلمية متنقلا بين مدن ولاته وتيشيت وتنبكتو، ليصبح بعد ذلك من أشهر مدرسي العلوم الشرعية بمنطقة الحوض، حيث درس عليه الكثير من العلماء من أشهرهم محمد الخضير ولد مايابي ومحمد المختار ولد إكاي وأحمد ولد محمد آب.
وقد أنجب محمد الأغظف الحوضي خلال مقامه بالحوض ابنه محمد الطالب اعلى وابنته مريم والدة العلامة الوسري المشهور فضل الله. وقد عاصر خلال تلك الفترة عدة علماء من بينهم أحد أشهر علماء المنطقة محمد الأمين ولد إبراهيم. وكانت بداية تواصل الأغـظف الثقافي مع الأعلام المشارقة أثناء رحلته إلى الحج سنة 1892، حيث كانت له معهم عدة مساجلات علمية، كما التقى هناك بالعلامة محمد يحي الولاتي، وعند عودته من الحج مرورا بشمال مالي، بضواحي تنبكتو، على غرار معظم الحجاج الشناقطة آنذاك، استقر به المقام هناك ردحا من الزمن عند قبيلة أولاد محمد، التي تنافس شيوخها على إكرام وفادته لما ألفوه في شخصيته من علم وتقى وورع.
وفي تلك الآونة كان السلطان المغربي مولاي عبدالحفيظ، أحد أسلاف العاهل المغربي الحالي محمد السادس يبحث عن مفتٍ للديار المغربية ومدرس لأبنائه، إلى أن علم بالعالم الحوضي عن طريق أحد مقربيه، فأرسل وفدا ملكيا إلى حيث يقيم بشمال مالي لتكليفه بالمهمة.
وقد أقام العلامة الحوضي بمراكش حوالي 20 عاما ما منحه فرصة سانحة للالتقاء بعدة علماء هناك من بينهم تلميذه الأسبق محمد الخضير ولد مايابي، الذي شهد له بالعلم أمام العاهل مولاي عبدالحفيظ، والشيخ ماء العينين المجاهد المشهور، كما قام بتأليف عدة كتب من بينها “شرح السبك العجيب لمعاني حروف مغني اللبيب” وقد حققه المغربي علي بن مبارك الروداني الإدريسي، في كتابه حاشية فتح الصمد على شرح الفقيه محمد الأغظف ابن أحمد الولاتي الحوضي المنظومة لمولانا عبدالحفيظ بن مولانا الحسن المسماة “السبك العجيب لمعاني حروف مغني اللبيب”، إضافة إلى عدة مؤلفات أخرى له في علوم القرآن وغيرها.
التأثير الإقليمي وتعزيز السلم
ويقول الباحث الأستاذ محمد يحيى بن احريمو عن محمد الأغظف الولاتي الحوضي في الندوة الدولية حول إسهام العلماء الشناقطة في حركة النهضة الأدبية في المشرق إن الشيخ الأغظف رحل إلى الديار المقدسة ثلاث مرات فأفاد واستفاد، وفي عودته من الثالثة مر بمراكش فالتقى بالسلطان المغربي الحسن بن محمد، وعندما أدرك هذا الأخير سعة علم واطلاع الشيخ محمد الأغظف، اعتبره جوهرة نادرة رمته بها الصحراء الشنقيطية، وعليه أن يعض عليها بالنواجذ. فقربه وطلب منه الإقامة معه مكرما معززا فقبل، ثم أسند إليه مهام متعددة ورد ذكرها في ملخص ترجمته التي كتبت في هامش كتاب “العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل للسلطان مولاي عبدالحفيظ”.
ومن تجليات نفوذ الشيخ محمد الأغظف السياسي معارضته للانتداب الفرنسي وتحريضه على مقاومته، حيث رفض الاعتراف بسلطة فرنسا على المغرب بعد نفي السلطان عبدالحفيظ. مما جعل الحاكم الفرنسي يستشعر الخطر من نفوذه المؤثر في الساحة المغربية، ليبادر إلى فرض الإقامة الجبرية عليه في بيته، وظل على تلك الحال حتى توفي ودفن بروضة الإمام السهيلي، أحد الرجال السبعة، وتعتبر هذه الروضة من أهم المزارات الدينية بالمغرب.
وقد رثاه خلق كثير في مقدمته تلميذه وابن عمه الباشا البيضاوي باشا تاردانت. كما أن من أشهر رواد الطريقة الغظفية الراحلين المجاهد الكبير الشيخ محمد الأمين بن زين العابدين القلقمي، والعلامة القاضي الشيخ المحفوظ بن بيه المسومي، والشيخ العلامة مولاي الحسن الملقب بأبي حسن النعماوي وابنه العلامة الشيخ مولاي اعل، والعلامة محمد الصغير ولد خطري ولد باب، والعلامة المرحوم الحضرامي ولد لوصيف.
من بين أبرز أعلام الطريقة الغظفية الأحياء، العلامة الشيخ عبدالله بن بيه، سفير الحريات الدينية، ورئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى تعزيز السلم، والذي حظي أخيرا بتكريم عالمي تمثل في تسلمه الجائزة الدولية للجمعية العالمية للدفاع عن الحرية الدينية، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في جنيف، خلال القمة العالمية الثانية حول الدين والسلام والأمن المنعقدة في الفترة من 29 أبريل إلى 1 مايو الماضيين في مقر الأمم المتحدة بجنيف.
وجاء هذا التكريم تقديرا واعترافا دوليا، بجهود الشيخ بن بيه في تأصيل خطاب السلم والتسامح في الإسلام وتفعيله في مبادرات ناجحة، مثل “إعلان مراكش” و”قافلة السلام” و”حلف الفضول”، ومن خلال إشرافه ودعمه لجهود المصالحة في عدد من الدول التي تشهد حروبا أهلية وصراعات دموية وحركات متطرفة، حيث عرف عن الشيخ دفاعه عن حقوق الأقليات المسلمة في الدول الأوروبية وسعيه لتقديم خطاب متوازن يشجع الإدماج الإيجابي بهذه الأقليات ضمن نسيجه المجتمعي.
ومن أبرز من أخذوا الطريقة عن الشيخ محمد الأغطف، الشيخ المختار بن الطالب اعمر بن نوح، وانتشرت بعد ذلك فى شمال ووسط موريتانيا على يد الشيخ محمد محمود البوصادي الخلف ولد الشيخ سيد أحمد ، ثم ازداد انتشاره على يده في الشمال على يد ابنه الشيخ الغزواني ومن بعده ولده الشيخ محمد أحمد ، وصولا إلى حفيده الرئيس المنتخب محمد ولد الغزواني، وكان الشيخ غالي الكبير ولد آفا قد نشر الطريقة الغظفية في منطقة شرق البلاد، ومن أشهر تابعيه الشيخ محمد محمود ولد بيه والشيخ محمد الأمين ولد زيني والشيخ مولاي عبدالله “باب حسن”. ويشير الباحثون إلى أن الشيخ الغزواني كان معروفا بكثرة الترحال بين المدن والبوادي مصحوبا بمريديه،
إلى أن توفي في مدينة تجكجه، فتولى خلافته نجله الشيخ محمد أحمد الذي عرف بقدراته المتميزة في ربط الصلة بمعاصريه بمن في ذلك الأعيان وأهل السلطان في منطقة أمديد من ولاية العصابة بإقليم الحوض الشرقي، حتى امتد نفوذه الروحي إلى مدينة تكانت والحوض الغربي، وقد كان يجزل العطايا ويقدم الهدايا وخاصة للأمير عبدالرحمان ولد سويد أحمد المعروف باسم “الدان“ والذي كان معروفا بأنه إذا أراد جلب أحد المطلوبين، قال “أجلبوه من أي مكان، إلا إذا كان في خيمة أهل الغزواني فاتركوه” تقديرا لمكانة الشيخ.
شعرة معاوية
اشتهر الشيخ محمد الغزواني بتواصله مع مشايخ وأعيان القبائل والمدن، محافظا على شعرة معاوية مع السلطات المركزية، كما اختار الاستقرار في بو أمديد، متخليا عن عادة الترحال عند والده، وبنى لنفسه عقارات في نواكشوط حيث كان يدير أمواله. وفي العام 1956 رزق الشيخ بمولود أطلق عليه اسم محمد وشب وترعرع في بو أمديد، وتنقل بين مدن وقرى مثل لگليب والزيرة والدفعة ولمنيگيعـه و الرگ والكمبة، ولفطح، واحسي الطين، وكنكوصه، وكرو.
كما زار سلسلة جبال الموريتانيد، حيث تمتزج الأراضي الصخرية بالتربة الرملية، قبل أن يفسح المجال لسهول رعوية وزراعية، وانتقل بين المدارس الدينية التقليدية، وفي العام 1980 قرر الانتماء إلى المدرسة العسكرية بعد أن أنهى دراسته وحصل على شهادة جامعية في الدراسات القانونية وماجستير في العلوم الإدارية والعسكرية.
واليوم تعتبر عائلة الغزواني التي ينتمي إليها الرئيس الموريتاني المنتخب الوريثة الشرعية للطريقة الغظفية الشاذلية القادرية، وهو ما جعل الكثيرين يتحدثون عن الرئيس المتصوف الزاهد المسالم المتسامح، المتمسك بإرث أجداده، وخاصة جده الغزواني الأكبر الذي كان وراء نشر الطريقة في شمال موريتانيا، ما أعطاه زخما من أصوات أتباع الطرق الصوفية الذين يمثلون ثقلا مهما في البلاد